الجمعة، 28 فبراير 2014

مما جاء في قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم...) الإسراء، ٣٤

السلام عليكم.. صبحكم الله بالخير ورزقكم في يومكم هذا خيرا لا ينقطع أبدا..🌹

يقول خالق كل شيء:

وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً
 (الإسراء، ٣٤)

وهنا أيضاً يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ.. } 

ولم يقل: ولا تأكلوا مال اليتيم ليحذرنا من مجرد الاقتراب، أو التفكير في التعدِّي عليه؛ لأن اليُتْم مظهر من مظاهر الضعف لا صح أنْ تجترئَ عليه.

و{ٱلْيَتِيمِ} هو مَنْ مات أبوه وهو لم يبلغَ مبلغ الرجال وهو سِنْ الرُّشْد.

إذن: إنْ وجد اليتيم في المجتمع عِوَضاً عن أبيه عَطْفاً وحناناً ورعاية يرضى بما قُدِّر له، ولا يتأبَّى على قدر الله، وكذلك تطمئن النفس البشرية إنْ قُدِّر عليها اليُتْم في أولادها.
***
ثم يقول تعالى: {إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} 

هذا استثناء من الحكم السابق {وَلاَ تَقْرَبُواْ...} يبيح لنا أن نقرب مال اليتيم، ولكن بالتي هي أحسن.

و{أَحْسَنُ}، "أفعل"، تفضيل تدل على الزيادة في الإحسان، فكأن لدينا صفتين ممدوحتين: حسنة وأحسن، وكأن المعنى: لا تقربوا مال اليتيم بالطريقة الحسنة فحسب، بل بالطريقة الأحسن. فما الطريقة الحسنة؟ وما الطريقة الأحسن؟

الطريقة الحسنة: أنك حين تقرب مال اليتيم لا تُبدده ولا تتعدَّى عليه. لكن الأحسن: أنْ تُنمي له هذا المال وتُثمّره وتحفظه له، إلى أن يكون أَهْلاً للتصرّف فيه.
***
لذلك فالحق سبحانه حينما تكلم عن هذه المسألة قال:
{وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا} 
[النساء: 5]

ولم يقل: وارزقوهم منها؛ لأن الرزق منها يُنقِصها، لكن معنى:
{وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا} 
أي: من ريعها وربحها، وليس من رأس المال.

وإلاَّ لو تصوّرنا أن أحد الأوصياء على الأيتام عنده مال ليتيم، وأخذ ينفق عليه من هذا المال، ويُخرج منه الزكاة وخلافه، فسوف ينتهي هذا المال ويبلغ اليتيم مبلغ الرُّشْد فَلا يجد من ماله شيئاً يُعتَدُّ به.
***
 والحق سبحانه وتعالى يريد ألاَّ يحرم اليتيم من خبرة أصحاب الخبرة والصلاحية الاقتصادية وإدارة الأموال، فقد يكون من هؤلاء مَنْ ليس لديه مال يعمل فيه، فليعمل في مال اليتيم ويُديره له ويُنمّيه، وليأكل منه بالمعروف، وإنْ كان غنياً فليستعفف عنه؛ لأنه لا يحلّ له، يقول تعالى:
{ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف...} 
[النساء: 6]

لأن الإنسان إذا كان عنده خبرة في إدارة الأموال ولديْه الصلاحية فلا نُعطِّل هذه الخبرة، ولا نحرم منها اليتيم.
***
ثم يقول تعالى: { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ..} 

أي: حتى يكبر ويبلغ مبلغ الرجال.

في الحقيقة، أن هذه الصفة غير كافية لنُسلّم له ماله يتصرف فيه بمعرفته؛ لأنه قد يكون مع كِبَر سِنّه سفيهاً لا يُحسِن التصرُّف، فلا يجوز أن نتركَ له المال لِيُبدّده، بدليل قوله تعالى:
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ...} 
[النساء: 6]

وقال في آية أخرى:
{ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} 
[النساء: 5]

ولم يقل: أموالهم، لأن السفيه ليس له مال، وليس له ملكية، والمال مال وليه الذي يحافظ عليه ويُنمّيه له.
**
ثم يقول تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}.. {ٱلْعَهْدَ} ما تعاقد الإنسان عليه مع غيره عقداً اختيارياً يلتزم هو بنتائجه ومطلوباته، وأول عقد أُبرٍمَ هو العَقْد الإيماني الذي أخذه الله تعالى علينا جميعاً، وأنت حُرٌّ في أن تدخل على الإيمان بذاتك مختاراً أو لا تدخل، لكن حين تدخل إلى الإيمان مُخْتاراً يجب أن تلتزم بعهد الإيمان. 
***
ومن باطن هذا العهد الإيماني تنشأ كل العقود، لذلك يجب الوفاء بالعهود؛ لأن الوفاء بها جزء من الإيمان، فأنت حُرٌّ أن تقابل فلاناً أولا تقابله، إنما إذا عاهدتَه على المقابلة فقد أصبحتَ مُلْزماً بالوفاء؛ لأن المقابل لك قد رتَّبَ نفسه على أساس هذا اللقاء، فإنْ أخلفتَ معه العهد فكأنك أطلقتَ لنفسه حرية الحركة، وقيَّدتَ حركة الآخر.

وهذه صفة لا تليق أبداً بالمؤمنين، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من صفات المنافقين.

وقوله: {إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}

قد يكون المعنى: أي مسئولاً عنه، فيسأل كل إنسان عن عهده أوفَّى به أم أخلفه؟
***
ولأهمية العهد في الإسلام نجده ينعقد بمجرد الكلمة، وليس من الضروري أن يُسجَّل في سجلات رسمية؛ لأن المؤمن تثق في كلمته حتى إن لم تُوثَّق وتكتب.

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

الخميس، 27 فبراير 2014

مما جاء في تفسير (ولا تقربوا الزنا).. الإسراء، ٣٢

السلام عليكم ورحمة الله.. أسعد الله يومكم وعيشكم..

يقول الحق تبارك وتعالى:

﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾
(الإسراء، ٣٢)
 
أيها الإخوة المؤمنون، وردت آية النهي عن الزنى بين آيتي النهي عن القتل!

﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾
(الإسراء: ٣١)

﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾
(الإسراء: ٣٣)

 جاءت بينهما آية النهي عن الزنى.

﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾
 (الإسراء: ٣٢)
 
فبعض العلماء استنبط من أن تكون آية النهي عن الزنى بين آيتي النهي عن القتل أن الزنى نوعٌ من أنواع القتل، ولكن هذا القتل قتلٌ معنوي، وليس قتلاً مادياً، فهذه المرأة التي تقع في الزنى كأنها تقتل فتخرج من إنسانيتها، وتبعد عن مهمتها المقدسة، وعن الوظيفة العليا التي خلقت من أجلها، وعن أن تقوم بدورها الطبيعي الإنساني. 
 ***
 ليس النهي في هذه الآية عن ارتكاب الزنى! ولكن النهي عن الاقتراب من الزنى، فأي شيء يقربك إلى الزنى أنت منهي عنه بنص هذه الآية، فالنظر إلى النساء خطوة أولى نحو الزنى، والحديث معهن حديثاً فيه لين، كذلك خطوة إلى الزنا، ومجالسة أهل الزنى والاختلاط، وقراءة الأدب الرخيص، ومشاهدة الأشياء التي تسبب إثارة المشاعر، ومتابعة التمثيليات الفاضحة كلها خطوة إلى الزنا، وربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾
***
 قال عليه الصلاة والسلام:
(إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه)
[أخرجه الطبراني عن ابن مسعود]

 وعَنْ جَرِيرٍ قَالَ:
(سأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ)
 (سنن أبي داود)
 
كل هذه الأحاديث إنما هي مستنبطة من هذه الآية: 
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾
***
[قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ... ) رواه البخاري ومسلم 

وقال عليه أفضل الصلاة والتسليم: "يا علي، إن لك كنزاً في الجنة، وإنك ذو قرنيها، فلا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى –أي إذا كانت عن غير قصد- وليست لك الآخرة"، رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفَّت عن محارم الله." رواه الطبراني ورواته ثقات]

*مقتطفات للدكتور محمد راتب النابلسي

الأربعاء، 26 فبراير 2014

تفسير قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق)، الإسراء: ٣١

السلام عليكم.. أسعد الله نهارك وكل أيامك..

يقول الرزاق ذو القوة المتين:

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا
(الإسراء، 31)

القتل: إزهاق الحياة، وكذلك الموت. ولكن بينهما فَرْق يجب ملاحظته:

فالقتل: إزهاق الحياة بنَقْض البِنْية؛ لأن الإنسان يتكوّن من بنية بناها الخالق سبحانه وتعالى، وهي أجهزة الجسم، ثم يعطيها الروح فتنشأ فيها الحياة.

أما الموت: فيبدأ بمفارقة الروح للجسد، ثم تُنقَض بنيته بعد ذلك. وتتلَفُ أعضاؤه، فالموت يتم في سلامة الأعضاء.

فحياة كل منا هي بناء أقامه الخالق تبارك وتعالى، وهو مِلْك لخالقه، لا يجوز حتى لصاحبه أن ينقضه، وإلا فلماذا حرَّم الإسلامُ الانتحار، وجعله كفراً بالله؟!

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ملعون من هدم بنيان الله". 
***
وقد أوضح القرآن الكريم هذه المسألة [الفرق بين الموت والقتل] في قوله تعالى:
{وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم} 
[آل عمران: 144]
***
وقوله تعالى: { أَوْلادَكُمْ.. }

الأولاد تُطلق على الذكَر والأنثى، ولكن المشهور في استقصاء التاريخ أنهم كانوا يَئدون البنات خاصة دون الذكور، وفي القرآن الكريم: 
{وإذا الموءودة سئلت • بأي ذنبٍ قتلت}
[التكوير: 8-9]

لأنهم في تلك العصور كانوا يعتبرون الذكور عَوْناً وعُدّةً في مُعْترك الحياة، وما يملؤها من هجمات بعضهم على بعض، كما يَروْن فيهم العِزْوة والامتداد. في حين يعتبرون البنات مصدراً للعار، خاصة في ظِلّ الفقر والعَوَزِ والحاجة، فلربما يستميل البنت ذو غِنىً إلى شيء من المكروه في عِرْضها، وبهذا الفهم يؤول المعنى إلى الرزق أيضاً.

وقوله: { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ.. } 

أي: خَوْفاً من الفقر، والإملاق: مأخوذة من مَلَق وتملّق، وكلها تعود إلى الافتقار؛ لأن الإنسان لا يتملَّق إنساناً إلا إذا كان فقيراً لما عنده محتاجاً إليه، فيتملَّقه ليأخذ منه حاجته.

***
وقوله: {نحن نرزقهم وإياكم...} 

في هذه الآية مَلْمح لطيف يجب التنّبه إليه وفَهْمه.

الحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {خشية إملاق.. } 
أي: خَوْفاً من الفقر، فالفقر ـ إذن ـ لم يَأْتِ بعد، بل هو مُحْتمل الحدوث في مستقبل الأيام، فالرزق موجود وميسور، فالذي يقتل أولاده في هذه الحالة غير مشغول برزقه، بل مشغول برزق أولاده في المستقبل؛ لذلك جاء الترتيب هكذا: {نحن نرزقهم.. } أولاً: لأن المولود يُولَد ويُولَد معه رزقه، فلا تنشغلوا بهذه المسألة؛ لأنها ليستْ من اختصاصكم.

ثم: {وإياكم.. }
أي: أن رِزْق هؤلاء الأبناء مُقدَّم على رزقكم أنتم، ويمكن أن يُفْهَم المعنى على أنه: لا تقتلوا أولادكم خَوْفاً من الفقر، فنحن نرزقكم من خلالهم، ومن أجلهم.
***
[مقارنة بين الآيتين من سورة الأنعام والإسراء]

ففي سورة الأنعام، يقول تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإياهم...} 
[الآية: 151]

إذا استقبلتم كلام الله استقبالاً سليماً فلن تجدوا فيه تعارضاً ولا تكراراً، فليست الأولى أبلغَ من الثانية، ولا الثانية أبلغَ من الأولى، بل كل آية بليغة في موضوعها؛ لأن الآيتين وإنْ تشابهتَا في النظرة العَجْلَى لكنْ بينهما فَرْق في المعنى كبير.

فآية الإسراء تقول:
{نحن نرزقهم وإياكم...}

وأما في آية الأنعام:
{نحن نرزقكم وإياهم...} 
[الآية: 151]

فلا بُدَّ أن نلاحظَ أن للآية صدراً وعَجُزاً، ولا يصح أن يفهم أحدهما دون الآخر، بل لا بُدَّ أن تجمع في فَهْم الآية بين صدرها وعجزها، وسوف يستقيم لك المعنى ويُخرجك من أي إشكال.

فصَدْري الآيتين مختلفان:

الأولى: {خشية إملاق...} [الإسراء: 31]

والأخرى:
{من إملاق...} 
[الأنعام: 151]

والفرْق واضح بين التعبيرين: فالأول: الفقر غير موجود؛ لأن الخشية من الشيء دليل أنه لم يحدث، ولكنه مُتوقَّع في المستقبل، وصاحبه ليس مشغولاً برزقه هو، بل برزق مَنْ يأتي من أولاده.

أما التعبير الثاني:
{من إملاق...} 
[الأنعام: 151]

هنا الفقر موجود وحاصل فعلاً، والإنسان هنا مشغول برزقه هو لا برزق المستقبل، فناسب هنا أنْ يُقدِّم الآباء في الرزق على الأبناء.
***
وقوله تعالى: {إن قتلهم كان خِطئا كبيرا} 

خِطْئاً مثل خطأ، وهو الإثم والذنب العظيم. وتأتي بالكسر وبالفتح كما نقول: خُذوا حِذْركم، وخذوا حَذرَكم.

[يقول ابن كثير في تفسيره: هذه الآية الكريمة دالة على أن اللّه تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده، لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته، فنهى اللّه تعالى عن ذلك.]

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

الثلاثاء، 25 فبراير 2014

تفسير قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين...) الإسراء، ٢٦

السلام عليكم.. وطيب الله صباحكم..🌹

يقول الحق تعالى:

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا
 (الإسراء، ٢٦)

بعد أن حننَّ الحق سبحانه الإنسانَ على والديْه في قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا).. صعَّد المسألة، فحنَّنه على قرابة أبيه وقرابة أمه، فقال: {وآت ذا القربى حقه...}.

{حَقَّهُ}.. لأن الله تعالى جعله حَقّاً للأقارب إنْ كانوا في حاجة، وإلا فلو كانو غير محتاجين، فالعطاء بينهم هدية متبادلة، فكل قريب يُهادي أقرباءه ويهادونه. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُشيعَ في المجتمع روح التكافل الاجتماعي.
***
لذلك كان بعض فقهاء الأندلس إذا منع الرجل زكاةً تقرُب من النِّصاب أمر بقطع يده، كأنه سرقه؛ لأن الله تعالى أسماه (حقاً) فَمْن منع صاحب الحق من حقه، فكأنه سرقه منه.

وقد سلك فقهاء الأندلس هذا المسلك، لأنهم في بلاد ترف وغنى، فتشدّدوا في هذه المسألة؛ لأنه لا عُذْر لأحد فيها.

لذلك، لما جاء أحد خلفائهم إلى المنذر بن سعيد، وقال: لقد حُلفت يميناً، وأرى أن أُكفِّر عنه فأفتاه بأن يصوم ثلاثة أيام، فقال أحدهم: لقد ضيّقتَ واسعاً، فقد شرع الله للكفارة أيضاً إطعامَ عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فرد عليه المنذر قائلاً: أو مثلُ أمير المؤمنين يُزْجَر بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم؟ إنه يفعل ذلك في اليوم لألْف وأكثر، وإنما يزجره الصوم، وهكذا أخذوا الحكم بالروح لا بالنص؛ ليتناسب مع مقدرة الخليفة، ويُؤثِّر في رَدْعه وزَجْره.
***
وكلمة (حق) وردت في القرآن على معنيين:

الأول: في قوله تعالى:
{والذين في أموالهم حقٌ معلوم} 
[المعارج: 24]

والحق المعلوم هو الزكاة.

أما الحق الآخر فحقٌّ غير معلوم وغير موصوف، وهو التطوع والإحسان، حيث تتطوَّع لله بجنس ما فرضه عليك، كما قال تعالى:
{إنهم كانوا قبل ذلك محسنين • كانوا قليلا من الليل ما يهجعون • وبالأسحار هم يستغفرون • وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم}
[الذاريات: 16-19]

ولم يقل: " معلوم ": لأنه إحسان وزيادة عَمَّا فرضه الله علينا.
***
ويجب على من يُؤْتِى هذا الحق أن يكون سعيداً به، وأن يعتبره مَغْنماً لا مَغْرماً؛ لأن الدنيا كما نعلم أغيار تتحول وتتقلب بأهلها، فالصحيح قد يصير سقيماً، والغني قد يصير فقيراً وهكذا، فإعطاؤك اليوم ضمانٌ لك في المستقبل، وضمان لأولادك من بعدك، والحق الذي تعطيه اليوم هو نفسه الذي قد تحتاجه غداً، إنْ دارتْ على العبد الدائرة.
***
ولذلك، فالناس أصحاب الارتقاء والإثراء لورعهم لا يعطون الأقارب من أموال الزكاة، بل يخصُّون بها الفقراء الأباعد عنهم، ويُعْطون الأقارب من مالهم الخاص مساعدة وإحساناً. 
***
و{ٱلْمِسْكِينَ}: هو الذي يملك وله مال، لكن لا يكفيه، بدليل قوله الحق سبحانه:
{أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ...} 
[الكهف: 79]

أما الفقير: فهو الذي لا يملك شيئاً، وقد يعكس البعض في تعريف المسكين والفقير، وهذا فهم خاطئ.

و{وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ...}
السبيل هو الطريق، والإنسان عادةً يُنْسَب إلى بلده، فنقول: ابن القاهرة، ابن بورسعيد، فإنْ كان منقطعاً في الطريق وطرأتْ عليه من الظروف ما أحوجه للعون والمساعدة، وإن كان في الحقيقة صاحب يسارٍ وَغِنىً، كأن يُضيع ماله فله حَقٌّ في مال المسلمين بقدر ما يُوصّله إلى بلده.

وابن السبيل إذا طلب المساعدة لا تسأله عن حقيقة حاله، لأن له حقاً واجباً فلا تجعله في وضع مذلّة أو حرج.
*** 
{ولا تبذر تبذيرا}
كما قال تعالى في آية أخرى:
{وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} 
[الأنعام: 141]

فالتبذير هو الإسراف، مأخوذ من البذر، وهو عملية يقوم بها الفلاح فيأخذ البذور التي يريد زراعتها، وينثرها بيده في أرضه، فإذا كان متقناً لهذه العملية تجده يبذر البذور بنسب متساوية...
***
لذلك، فالحق سبحانه آثر التعبير عن الإسراف بلفظ (التبذير)؛ لأنه يضيع المال في غير موضعه المناسب، وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام، فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم، في حين يمسك في الشيء الضروري.

إذن: التبذير: صَرْف المال في غير حِلِّه، أو في غير حاجة، أو ضرورة.

وقد يكون المعنى: أعْطِ ذا القربى والمساكين وابن السبيل، ولكن لا تُبذِّر في الأمور الأخرى، فالنهي هنا لا يعود إلى الإيتاء، بل إلى الأمور التافهة التي يُنفَق فيها المال في غير ضرورة.
***
[فائدة ذكرها ابن كثير: يقول ابن مسعود، التبذير هو الإنفاق في غير حق.. وقال مجاهد، لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً، ولو أنفق مداً في غير حق كان مبذراً. وقال قتادة: التبذير هو النفقة في معصية الله تعالى، وفي غير الحق والفساد.]

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

الاثنين، 24 فبراير 2014

مقتطفات من تفسير قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا).. الإسراء، ٢٣

السلام عليكم.. أسعد الله صباحكم وفتح لكم من خيري الدنيا والآخرة..🌹

يقول الحق تبارك وتعالى:
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إمّا يبلغنّ عندك الكبرَ أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً} 
(الإسراء، ٢٣)

أمر الله تعالى عباده في كتابه العظيم بأوامر صريحة في بر الوالدين، فقال تبارك وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً}  [الأحقاف:15]

 وقرن تعالى برهما بالأمر بعبادته في كثير من الآيات؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36].

وبر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله، فعن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعود قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها). قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين). قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله). [متفق عليه].

***
وفي آية بر الوالدين من سورة الإسراء: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه... الآية)، ذكر المفسر طاهر ابن عاشور، رحمه الله، أنها - أي هذه الآية - هي أول تفصيل للشريعة للمسلمين وقع في مكة. [ومعها ستكون لنا عدة وقفات]

- الوقفة الأولي: لِمَ ذكر الله تعالي الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بالعبادة لله تعالى؟

- الوقفة الثانية: ِلمَ لم يقدّم كلمة (إحسانا) كقول (وإحسانا بالوالدين) ولكنه قال (وبالوالدين احسانا)؟

ومن أعاجيبها، يقول الشيخ: حتي في أدق التفاصيل يقدّم الوالدين حتي في ذكرهما اللفظي، فقدّم كلمة (الوالدين) على (إحسانا)، مع أن الإحسان متعلق بهما.

- لم أتت كلمة (الوالدين)  بـ"أل" التعريف؟ 
الجواب: ليشمل كل والدي كل مكلف شمله الخطاب السابق: (ألا تعبدوا إلا اياه).

- ما هو السر في إتيان (إحسانا) بالتنكير، وليست معرفة؟
الجواب: ليشمل كل لون من ألوان الإحسان، القول والفعل.

- لم ذكر (أحدهما) و(كلاهما) في قوله تعالى: (إما يبلغن عندك الكبرَ أحدهما أو كلاهما)، ولم يكتفِ بـ(أحدهما)؟
الجواب: البر مقصود ومطلوب سواء عندك الوالدين كلاهما أو أحدهما (في الكبر) و.....

-لم تم ذكر كلمة (عندك) في الآية، خطاباً مباشرا لهذا الإبن؟
الجواب: لتصور معني (الإلتجاء) و(الإحتماء) في حال الكبر والضعف ويكون ذلك (عندك) [كون الإبن المخاطب والمعني].. أي بعد أن كان الإبن (عندهما)، صار الوالدين (عندك)، فهما يكبرا ويعجزا، ويكونا كلاًّ وعبئاً على الولد، فهذا أشقى عليه وأشد احتمالاً.. فقال تعالى: (فلا تقل لهما أف).

- ترتيب النواهي للإبن: (فلا تقل لهما أف، ولاتنهرهما، وقل لهما قولا كريماً)؟
مرتبة ترتيباً.

- ما معنى كلمة (أف)، وهل هي مقصودة لذاتها؟
الجواب: (أف): اسم فعل بمعنى (أتضجر)، أي أنا أتضجر، وفيها أن الله ضيّق على الولد مايطلبه عليه لوالديه، فلا تقل للوالدين حتي ولو (أف)، هذين الحرفين اللذين قد تنفلت من المتضجر. ربما يكون الوالدين ثقيلين على الإبن بمرض أو رعاية خاصة، فعلى الإبن أن يقوم بالبر ولايقل لهما (أف). و(أف) ليست مقصودة لذاتها، إنما دلالة على غيرها، من أي أنواع التضجر. فهو لم يسب أو يلعن، إنما قال (أف)، ولم يقل جمل وتراكيب.. لم يقل (أتعبتوني) أو غيرها. فإذا هو قد نهي عن هذا الكلام الخفيف (أف)؛ فغيره أعظم من باب أولى.

- (ولاتنهرهما) هنا لفتة جميلة.
ولاتنهرهما، أي: لاتوجرهما مما يتعاطيانه، من المعلوم أن لكل جيل مايستحسن وما يستقبح، فجيل الآباء غير جيل الأبناء، وجيل الأبناء، غير جيل الأبناء القادمين.

إذن: قد يستحسن الوالدان أموراً كانا يستحسناها أيام شبابهما وقوتهما، مما لا يروق للأبناء، إما بطبائع أو بأمور إجتماعية، وإما بعادة تدفئة أو إطفاء مكيف، فهنا ينبغي للإبن ألا ينهرهما، بل عليه (بمعني الآية) أن يتكيّف بما يريدان، ويرحمهما ولا يجبرهما على شيء.

- (وقل لهما قولا كريما) هل لهذا القول الكريم حد؟
الجواب: قال الراغب الأصفهاني: (كل شئ يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم)، انتهى.

ويمكن أن يكون من باب الإضافة (قولا كريما) أي قول رجل كريم وقول ولد كريم.

والأعجب في كلام سعيدبن المسيب، عندما سأله رجلا عن (القول الكريم) فرد عليه: (هو قول العبد المذنب لسيد فظ)، انتهى. 
(عبد ومذنب، لسيد فظ غليظ.. ماذا سيكون القول له؟ لا شك في أنه سيتذلل غاية التذلل في كلامه له.

*من مقتطفات في بر الوالدين، للدكتور إبراهيم بن عبد الله السماعيل، بتصرف يسير

الأحد، 23 فبراير 2014

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة... الآيات) الإسراء: ١٨-٢١

السلام عليكم.. أسعد الله صباحك وجعلك من أهل عليين والديك ومن تحب..

يقول الحق تبارك وتعالى:

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا • وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا • كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا • انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا
 (الإسراء: ١٨-٢١)

يقول الحق تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ} هذا تأكيد لما سلف من جملة {كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه}، ومن جملة {من اهتدى}، والمراد بالعاجلة: المنفعة العاجلة، أو الدار العاجلة. والمعنى: من كان يريد بأعمال البرّ أو بأعمال الآخرة ذلك، فيدخل تحته الكفرة والفسقة والمراءون والمنافقون {عَجَّلْنَا لَهُ} أي: عجلنا لذلك المريد {فِيهَا}: أي: في تلك العاجلة.
***
 ثم قيد المعجل بقيدين:
الأوّل: قوله: {مَا نَشَاء} أي: ما يشاء الله سبحانه تعجيله له منها، لا ما يشاؤه ذلك المريد، ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون، ويتمنون ما لا يصلون إليه.

والثاني قوله: {لِمَن نُّرِيدُ} أي: لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا،... وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة كقوله سبحانه: 
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا }
[الشورى: 20].
***
ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلاّ بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم، ولهذا قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} أي: جعلنا له بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب عذاب جهنم على اختلاف أنواعه {يَصْلَـٰهَا} أي: يدخلها {مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} أي: مطروداً من رحمة الله مبعداً عنها، فهذه عقوبته في الآخرة، مع أنه لا ينال من الدنيا إلاّ ما قدره الله سبحانه له، فأين حال هذا الشقيّ من حال المؤمن التقيّ؟ 
***
فإنه [أي المؤمن] ينال من الدنيا ما قدّره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع، مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه، وهو الجنة، ولهذا قال: {وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ} أي: أراد بأعماله الدار الآخرة {وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا} أي: السعي الحقيق بها اللائق بطالبها، وهو الإتيان بما أمر به، وترك ما نهى عنه خالصاً لله غير مشوب، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله إيماناً صحيحاً، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلاّ إذا كان من المؤمنين:

{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ }
[المائدة: 27]
***
والإشارة بقوله: {فَأُوْلَـئِكَ} إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها وخبره {كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} عند الله تعالى، أي: مقبولاً غير مردود، وقيل: مضاعفاً إلى أضعاف كثيرة، فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكوراً أموراً ثلاثة:
 الأول: إرادة الآخرة،
الثاني: أن يسعى لها السعي الذي يحق لها، والثالث: أن يكون مؤمناً.
***
ثم بين سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ} أي كل واحد من الفريقين نمدّ، أي: نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع، نرزق المؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، وما به الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا، وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة، وفي قوله: {مِنْ عَطَاء رَبّكَ} إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل وهو متعلق بـ {نمد} ، {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا} أي: ممنوعا.
***
قال الزجاج: أعلم أن الله سبحانه يعطي المسلم والكافر وأنه يرزق الفريقين جميعا، فقال: {هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ}. {ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار، وهذه الجملة مقرّرة لما مرّ من الإمداد وموضحة له، والمعنى: انظر كيف فضلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض، فمن غني وفقير، وقوي وضعيف، وصحيح ومريض، وعاقل وأحمق، وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها. {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـٰتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، وليس للدنيا بالنسبة إلى الآخرة مقدار، فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً. 

[ومن التفاضل في منازل أهل الجنة] ما ورد في الصحيحين:
"إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء."

*من تفسير فتح القدير للشوكاني، رحمه الله ورحمنا