الاثنين، 31 مارس 2014

مما جاء في تفسير قوله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) الإسراء، ١٠٠

السلام عليكم، طبتم وطاب صباحكم..

يقول من خلق الأرض في يومين:

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا
 (الإسراء، ١٠٠)

قوله تعالى: {قُل} أمر من الحق سبحانه وتعالى أنْ يقولَ لأمته هذا الكلام، وكان يكفي في البلاغ أن يقول النبي، صلى الله عليه وسلم، لأمته: لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي.. لكن النبي هنا يحافظ على أمانة الأداء القرآني، ولا يحذف منه شيئاً؛ لأن المتكلم هو الله، وهذا دليلٌ على مدى صدق الرسول في البلاغ عن ربه.

ومعنى {خَزَآئِنَ} هي ما يُحفظ بها الشيء النفيس لوقته، فالخزائن مثلاً لا نضع بها التراب، بل الأشياء الثمينة ذات القيمة.

ومعنى: {خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي: خَيْرات الدنيا من لَدُن آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة، وإنْ من شيء يحدث إلى قيام الساعة إلا عند الله خزائنه، فهو موجود بالفعل، ظهر في عالم الواقع أو لم يظهر:
{وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} 
[الحجر: 21] أي: أنه موجود في عِلْم الله، إلى حين الحاجة إليه.

لذلك لما تحدَّث الحق سبحانه عن خلق الآيات الكونية في السماء والأرض قال:
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} 
[فصلت: 9-10]

نلاحظ أن قوله تعالى {وَبَارَكَ فِيهَا} جاءت بعد ذِكْر الجبال الرواسي، ثم قال:
{وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا..} 
[فصلت: 10]
كأن الجبال هي مخازن القوت، وخزائن رحمة الله لأهل الأرض. والقوت: وهو الذي يتمّ به استبقاء الحياة، وهذا ناشئ من مزروعات الأرض، وهذه من تصديقات القرآن لطموحات العلم وأسبقية إخبار بما سيحدث، فهاهو القرآن يخبر بما اهتدى إليه العلم الحديث من أن العناصر التي تُكوّن الإنسان هي نفس عناصر التربة الزراعية التي نأكل منها.

لكن، كيف تكون الجبال مخازن القوت الذي جعله الله في الأرض قبل أن يُخْلَق الإنسان؟

نقول: إن الجبال هي أساس التربة التي نزرعها، فالجبل هذه الكتلة الصخرية التي تراها أمامك جامدة هي في الحقيقة ليست كذلك؛ لأن عوامل التعرية وتقلبات الجو من شمس وحرارة وبرودة، كل هذه عوامل تُفتِّت الصخر وتُحدِث به شروخاً وتشققات، ثم يأتي المطر فيحمل هذا الفُتات إلى الوادي، ولو تأملتَ شكل الجبل وشكل الوادي لوجدتهما عبارة عن مثلثين كل منهما عكس الآخر، فالجبل مثلث رأسه إلى أعلى، وقاعدته إلى أسفل، والوادي مثلث رأسه إلى أسفل وقاعدته إلى أعلى.

وهكذا، فكُلُّ ما ينقص من الجبل يزيد في الوادي، ويُكوِّن التربة الصالحة للزراعة، وهو ما يسمى بالغِرْيَن أو الطمى.

إذن: فقوله تعالى عن بداية خلق الأرض:
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا..} 
[فصلت: 10]
كأنه يعطينا تسلسلاً لخَلْق القُوت في الأرض، وأن خزائن الله لا حدودَ لها ولا نفادَ لخيراتها.

ثم يقول تعالى: {إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَانُ قَتُوراً}

أي: لو أن الله تعالى ملَّك خزائن خيراته ورحمته للناس، فأصبح في أيديهم خزائن لا تنفد، ولا يخشى صاحبها الفقر، لو حدث ذلك لأمسك الإنسان وبخِلَ وقَتَر خوف الفقر؛ لأنه جُبِل على الإمساك والتقتير حتى على نفسه، وخوف الإنسان من الفقر ولو أنه يملك خزائن رحمة الله التي لا نفادَ لها ناتج عن عدم مقدرته على تعويض ما أَنفق؛ ولأنه لا يستطيع أنْ يُحدِث شيئاً.

والبخل يكون على الغير، فإنْ كان على النفس فهو التقتير، وهو سُبَّة واضحة ومُخزِية، فقد يقبل أن يُضَيِّق الإنسانُ على الغير، أما أنْ يُضيق على نفسه فهذا منتهى ما يمكن تصوّره.

*من "خواطر الشعراوي"، رحمنا الله ورحمه

الأحد، 30 مارس 2014

مما جاء في تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ) الإسراء، ٩٧

السلام عليكم.. طبتم وطاب صباحكم..

يقول عز من قائل:

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ ۖ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ۖ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا
(الإسراء، ٩٧)

يقول تعالى مخبراً عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه، وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه أي يهدونهم، كما قال: 
{مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً}
[الكهف: 17].

وقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ}، عن أنَس بن مالك:
"قيل يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: "الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم."

وعن حذيفة بن أسيد قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار، قولوا ولا تحلفوا، فإن الصادق المصدوق حدثني: أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج، فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار. وقوله: {عُمْياً} أي لا يبصرون، {وَبُكْماً} يعني لا ينطقون، {وَصُمّاً} لا يسمعون.. وهذا يكون في حال دون حال، جزاء لهم كما كانوا في الدنيا، بكماً وعمياً وصماً عن الحق، فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه، {مَّأْوَاهُمْ} أي منقلبهم ومصيرهم {جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} قال ابن عباس: سكنت، وقال مجاهد: طفئت { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } أي لهباً ووهجاً وجمراً.

*من تفسير ابن كثير، رحمه الله
***
وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها؛ ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا، لقوله تعالى: 
{وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا}
[الكهف: 53]

وتكلموا، لقوله تعالى: 
{دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً}
[الفرقان: 13]

وسمعوا، لقوله تعالى: 
{سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً}

*من تفسير القرطبي، رحمه الله
***
ويقول الشعراوي في خواطره: 
وهنا مَلْحظ دقيق يجب تدبُّره: في الاهتداء جاء الأسلوب بصيغة المفرد: {وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ..} لأن للاهتداء سبيلاً واحداً لا غير، هو منهج الله تعالى وصراطه المستقيم، فللهداية طريق واحد أوضحه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به". 

أما في الضلال، فجاء الأسلوب بصيغة الجمع: {فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ..} لأن طرق الضلال متعددة ومناهجه مختلفة، فللضلال ألف طريق، وهذا واضح في قول الحق سبحانه:
{وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ..} 
[الأنعام: 153]

والنبي، صلى الله عليه وسلم، حينما قرأ هذه الآية خَطَّ للصحابة خَطّاً مُسْتقيماً، وخَطَّ حوله خطوطاً مُتعرّجة، ثم أشار إلى الخط المستقيم وقال: "هذا ما أنا عليه وأصحابي". 
***
إذن: الهداية طريق واحد، وللضلال أَلْف مذهب، وألف منهج؛ لذلك لو نظرتَ إلى أهل الضلال لوجدتَ لهم في ضلالهم مذاهب، ولكل واحد منهم هواه الخاص في الضلال. فعليك أنْ تقرأ هذه الآية بوعي وتأمُّل وفَهْم لمراد المتكلّم سبحانه ... ومن هنا تتضح توقيفية القرآن، حيث دقة الأداء الإلهي التي وضعتْ كُلَّ حَرْف في موضعه.

*من "خواطر الشعراوي"، رحمه الله ورحمنا

السبت، 29 مارس 2014

[صدمة التذكر]

والله إن مانتذكره من معاصينا لكافٍ بأن يوبق آخرتنا، فكيف إذا انضم إلى ذلك معاصٍ فعلناها ونسيناها، والله تعالى يقول: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة: 6]. 

اللهم اصفح عن خطايا لانزال نذكرها، وخطايا نسيناها سنراها في صحائفنا حين نلقاك، اللهم لاتردنا خزايا عن باب عفوك ياجواد ياكريم. 

*من "خواطر قرآنية" للشيخ إبراهيم بن عمر السكران

[الراضون]

من الأشياء التي تبتهج بها نفسي حين يتهادى إلى أذني صوت أحد كبار السن يذكر الله.. لا أدري لماذا يكون لزجل ذي الشيبة بالتسبيح وقع تنفسح به أرجاء النفس.. وأحس بسكينة غريبة تغشى المكان من حولي.. بل وأشعر أن ثمة توتراً يغادر المكان.. بمجرد أن تطفو همساتهم المتهدجة بعبارة "سبحااان الله.. سبحاااان الله".. وخصوصاً إذا كان في أواخر الليل وهم يحملون على أنفسهم إما لصلاة أو قراءة أوغيرها .. ومن الأمور التي كانت تشد انتباهي أن كل من رأيت من كبار السن الصالحين اللاهجين بذكر الله، أنهم يعيشون "رضا نفسي" عجيب ومدهش.. لا أعرف أحداً من كبار السن الذاكرين لله إلا ولاحظت في روحه طيب الخاطر والانشراح والرضا الذاتي.. 

وبكل صراحة فإنه لم تكن الظاهرتان مرتبطتان في ذهني بصورة واضحة، ولكن قبل أيام يسيرة مرت بي آية من كتاب الله كأنها كشفت لي سر هذا المعنى، وكيف يكون التسبيح سائر اليوم سبباً من أسباب الرضا النفسي، يقول الحق تبارك وتعالى: 

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [طه:130]

*من "خواطر قرآنية" للشيخ إبراهيم بن عمر السكران

الخميس، 27 مارس 2014

مما جاء في تفسير قوله: (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا) الكهف، ٩٠

السلام عليكم ورحمة الله..

يقول ربنا تبارك وتعالى:

حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا
(الكهف، ٩٠)

يقول تعالى، في خبر ذو القرنين: ثم سلك طريقاً فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها، وكان كلما مرّ بأُمّة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ، فإن أطاعوه وإلاّ أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الإقليم المتاخم لهم. وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفاً وستمائة سنة يجوب الأرض، طولها والعرض، حتى بلغ المشارق والمغارب، ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال الله تعالى {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ} أي أمة {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أي ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس.

قال سعيد بن جبير: كانوا حمراً قصاراً مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك. وقال الحسن في قول الله تعالى {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} قال: إن أرضهم لا تحمل البناء، فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم. وقال قتادة: ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئاً، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم. وقال ابن جرير: لم يبنوا فيها بناء قط ولم يبن عليهم فيها بناء قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسراباً لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل. 

*من تفسير ابن كثير، رحمه الله

ويقول الشعراوي في خواطره: 
هؤلاء البدائيون يعيشون هكذا [أي: عراة، كبعض القبائل في وسط أفريقيا مثلاً]، ويتكيفون مع بيئتهم، وتشغلهم مسألة الملابس هذه، ولا يفكرون فيها، حتى يذهب إليهم المتحضرون ويروْنَ الملابس، وكيف أنها زينة وسَتْر للعورة فيستخدمونها.

ونلاحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا عن هؤلاء القوم شيئاً وماذا فعل ذو القرنين معهم، وإنْ قِسْنا الأمر على القوم السابقين الذين قابلهم عند مغرب الشمس نقول: ربما حضَّرهم ووفَّر لهم أسباب الرُّقي.

*رحم الله الشعراوي ورحمنا

الأربعاء، 26 مارس 2014

مما جاء في تفسير قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) التوبة، ١٠٥

السلام عليكم.. طبتم وطابت أيامكم..🌹

يقول ربنا تبارك وتعالى:

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(التوبة، ١٠٥)

قال مجاهد: هذا وعيد من اللّه تعالى للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، كما قال تعالى: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}، وقال تعالى: {يوم تبلى السرائر}، وقال: {وحصل ما في الصدور}.

وقد يظهر اللّه تعالى ذلك للناس في الدنيا، كما قال الإمام أحمد عن رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج اللّه عمله للناس، كائناً ما كان).

وقد ورد: أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا)، أخرجه أحمد والطيالسي.

وقال البخاري: قالت عائشة رضي اللّه عنها: إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فقل: {اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون}.

وفي الحديث الصحيح: (إذا أراد اللّه بعبده خيراً استعمله قبل موته)، قالوا: يا رسول اللّه، وكيف يستعمله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه)، أخرجه أحمد عن أنس ابن مالك.

*من تفسير ابن كثير، رحمه الله ورحمنا

الثلاثاء، 25 مارس 2014

مما جاء في سبب نزول قوله تعالى: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا...الآيات) الإسراء، ٩٠-٩٣

السلام عليكم.. طبتم وطاب صباحكم..🌹

يقول رب العالمين:

{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا • أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا • أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا • أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا}
(الإسراء: ٩٠-٩٣)

نزلت الآية في رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي سفيان والنضر بن الحارث، وأبي جهل وعبد لله بن أبي أمية، وأمية بن خلف وأبي البختريّ، والوليد بن المغيرة وغيرهم، وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضَوْا به معجزة.

"اجتمعوا ـ فيما ذكر ابن إسحاق وغيره ـ بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فآتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً يحبّ رشدهم ويعزّ عليه عَنَتهم، حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد! إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمتَ الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفّهت الأحلام وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا له. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه قد غَلَب عليك ـ وكانوا يسمّون التابع من الجن رئياً ـ فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نُعذر فيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي ما تقولون. ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم؛ ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلّغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم. فإن تقبلوا مني ما جئتكم به.. فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ولا أقلّ ماء ولا أشدّ عيشاً منا، فسَلْ لنا ربَّك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا قُصي بن كلاب؛ فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول، أحقٌّ هو أم باطل، فإن صدّقوك وصنعت ما سألناك صدّقناك، وعرفنا به منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك رسولاً كما تقول. فقال لهم صلوات الله عليه وسلامه: ما بهذا بعثت إليكم. إنما جئتكم من الله تعالى بما بعثني به، وقد بلّغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه؛ فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ؛ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.

قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا.. فخذ لنفسك! سَلْ ربك أن يبعث معك مَلَكاً يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك، واسأله فليجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة، يغنيك بها عمّا نراك تبتغي؛ فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربّه هذا، وما بعثت بهذا إليكم، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً ـ أو كما قال ـ فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.

قالوا: فاسقط السماء علينا كسَفاً كما زعمت أن ربّك إن شاء فعل؛ فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك إلى الله عز وجل، إن شاء أن يفعله بكم فعل. قالوا: يا محمد، أَفَما عَلم ربّك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدّم إليك فيعلمك بما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به. إنه قد بلغنا أنك إنما يعلّمك هذا رجل من اليمامة يقال له "الرحمن"، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً.

فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، هو لعاتكةَ بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل! ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل! ثم سألوك أن تعجّل لهم بعض ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل! ـ أو كما قال له ـ فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سُلَّماً، ثم تَرْقَى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصَكٍّ معه أربعةٌ من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وأيْم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك! ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً آسفاً لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه".

*من تفسير القرطبي، رحمه الله ورحمنا

الاثنين، 24 مارس 2014

من ثمار حفظ القرآن

قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب."
[رواه الترمذي]

وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: كان النَّبي، صلى الله عليه وسلم، يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: "أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟" فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد.
[رواه البخاري]

الأحد، 23 مارس 2014

مما جاء في سبب نزول قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.. الآية) الممتحنة، ١

السلام عليكم، طبتم وطاب صباحكم.

يقول الحق تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل}
(الممتحنة، ١)

كان حاطب بن أبي بَلْتَعَة رجلاً من أهل اليمن، وكان له حِلْف بمكة في بني أسد بن عبد العُزَّى رَهْطِ الزبير بن العوام. وقيل: كان حليفاً للزبير بن العوّام، فقدمت من مكة سارّة، مولاة أبي عمرو بن صَيْفيّ بن هشام بن عبد مناف، إلى المدينة ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتجهّز لفتح مكة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أمُهاجرة جئت يا سارة؟"
فقالت: لا.
قال: "أمسلمة جئت؟"
قالت: لا.
قال: "ما جاء بك؟"
قالت: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة، وقد ذهب الموالي ـ تعني قُتلوا يوم بدر ـ وقد احتجتُ حاجةً شديدة فقدِمت عليكم لتعطوني وتكسوني؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "فأين أنتِ عن شباب أهل مكة؟" وكانت مغنية، قالت: ما طُلب منِّي شيء بعد وقعة بدر. فحثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها؛ فكسَوْها وأعطوها وحملُوها فخرجت إلى مكة. وأتاها حاطب فقال: أعطيك عشرة دنانير وبُرُداً على أن تبلِّغي هذا الكتاب إلى أهل مكة. وكتب في الكتاب:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حِذْركم". فخرجت سارّة، ونزل جبريل فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث علياً والزبير وأبا مَرْثَد الغَنَوِيّ. وفي رواية: عليّا والزبير والمِقْداد...، وكانوا كلهم فرساناً ـ وقال لهم: "انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَة خاخٍ فإن بها ظعينة - [أي المرأة المرتحلة، سارة] - ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلُّوا سبيلها فإن لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها" فأدركوها في ذلك المكان، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت ما معها كتاب، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتابا، فهمُّوا بالرجوع فقال عليّ: والله ما كَذَبَنا ولا كَذَّبْنَا! وسَلَّ سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا والله لأجردنّكِ ولأضرِبَنّ عنقكِ، فلما رأت الجِدّ أخرجته من ذؤابتها ـ وفي رواية من حُجْزَتها [وفي رواية أخرى: "فأخرجته من عقاصها": أي من شعرها المضفور] ـ فخلّوْا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسل إلى حاطب فقال: "هل تعرف الكتاب؟" قال: نعم."

[وورد في رواية للأئمة واللفظ لمسلم]: قال لا تعجل عليّ يا رسول الله، إني كنت امرأً مُلْصَقاً في قريش ـ قال سفيان: كان حَلِيفاً لهم، ولم يكن من أنْفُسِها ـ وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يَحْمُون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسَب فيهم أن أتّخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «صَدَق». فقال عمر: دَعْني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة.. الآية}.

*من تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، رحمه الله ورحمنا

الجمعة، 21 مارس 2014

(علم الله تعالى)

ذكر ابن كثير أن عطاء بن السائب قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم اللّه، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل.. ثم يقرأ قوله تعالى: {لَٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}.
(النساء، ١٦٦)

الخميس، 20 مارس 2014

مما جاء في تفسير (ولقد صرّفنا للناسِ في هذا القُرآنِ من كل مثل فأبى أكثرُ الناسِ إلا كفوراً) الإسراء، ٨٩

السلام عليكم.. طبتم وطاب صباحكم..

يقول الواحد الأحد:
 
{ولقد صرّفنا للناسِ في هذا القُرآنِ من كل مثل فأبى أكثرُ الناسِ إلا كفوراً}
(الإسراء، ٨٩)

التصريف: هو التحويل والتنويع بأساليب مختلفة لزيادة البيان، والمراد أن القرآن الكريم لا يعالج القضايا بأسلوب رتيب جامد، بل يُحوِّل الكلام بين أساليب متعددة؛ لأنه يخاطب طباعاً متعددة، ويتعرض أيضاً لموضوعات متعددة ومعاني مختلفة، فلا بُدَّ أن يصرف الأسلوب ويَقلِبه على أكثر من وجه، فالذي لا يفهم هذه يفهم هذه، فيعرض المعنى الواحد بأساليب متعددة وأمثال مختلفة.

ونأخذ مثالاً على ذلك قضية القمة، وهي الألوهية ووحدانية الله تعالى، فنرى القرآن يعرضها في معارض مختلفة هكذا:
{لو كان فيهما آلِهَةٌ إلا اللهُ لفسدتا..} 
[الأنبياء: 22]

أي: في السماء والأرض.

وهذا الأسلوب قد لا يفهمه غير العربي؛ لأنه يفتقد الملَكَة اللغوية التي يتلقّى بها كلام الله، وقد يعترض فيقول: (إلا) أداة استثناء. فالمعنى: لو كان فيهما آلهة خارج منهم الله لَفَسدتَا، فلو كانت هناك آلهة ومعهم الله فهذه لا تجوز؛ لأنها مشاركة، لكنها تفيد أن الله تعالى موجود، وإنْ كان معه آخرون، والمنطق في هذه الحالة يقول: لو كان في السماء والأرض آلهة ومعهم الله لا تفسد.

لكن الحقيقة أن {إِلاَّ} هنا ليس للاستثناء، بل هي اسم بمعنى (غير). فالمعنى إذن: لو كان فيهما آلهة غير الله لَفسدَتا.

ثم يعرضها بأسلوب آخر، فيقول تعالى:
{ما اتخذ اللُه من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كلُ إلهٍ بما خلقَ ولعلا بعضُهم على بعض..} 
[المؤمنون: 91]

فالحق تبارك وتعالى مُنزّه عن الولد والشريك، إذ لو كان معه إله آخر لَذهبَ كل إله بما خلق، واختصّ نفسه بمنطقة معينة، ولعلا بعضُهم على بعض، فإن أرادوا إبراز شيء للوجود، فأيّهما يبرزه؟ إنْ قدر على إبراز واحد فالآخر عاجز، وإنْ لم يقدر عليه واحد بمفرده، فهما عاجزان لا يصلحان للألوهية.

ثم يعرض نفس القضية بأسلوب آخر، فيقول:
{قل لو كان معه آلِهَةٌ كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا}
[الإسراء: 42]

أي: إنْ كان مع الله آلهة كما يدَّعي المشركون لَذهَب هؤلاء الآلهة إلى ذي العرش يُعاتبونه أو يُؤدِّبونه، أو يُعاقبونه؛ لأنه انفرد بالملْك من دونهم [تعالى الله عما يظنون].

وبأسلوب آخر يقول تعالى:
{شهد اللهُ أنهُ لا إله إلا هو..}
[آل عمران: 18]

ولم يَأْتِ مَنْ ينازعه هذه المكانة، أو يدَّعيها لنفسه، إذن: فقد ثبتتْ له هذه القضية إلى أنْ يُوجَد معارض، فالمختلف فيه يتفق عليه إنْ لم يظهر له معارض.

وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً، ولله المثل الأعلى: هَبْ أن جماعة انصرفوا من مجلس، ثم وجد صاحب البيت محفظة نقود في مكان مجلسهم فعرضها عليهم، فلم يدَّعها أحد لنفسه إلا رجل واحد قال: هي لي، أيشكُّ صاحب البيت أنها له؟
***
وهكذا يُصرِّف القرآن أسلوبه، ويُحوّله ليقنع به جميع العقول؛ ليناسب كل الطبائع. وتمتاز لغة العرب بالمثل والحكمة؛ لذلك كان من التصريف في أسلوب القرآن استخدام المثل، وهو تعبير مُوجَز، يحمل المعاني الكثيرة وتتعشق لفظه، وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته.

إذن: لأهمية المثل في لغة العرب جعله القرآن لَوْناً أسلوبياً، وأداةٍ للإقناعٍ، كما في قوله تعالى:
{إن ٱللَّهَ لا يَسْتَحْى أَن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. } 
[البقرة: 26]

لأن الله تعالى يخاطب بالقرآن عقولاً مختلفة وطبائع متعددة؛ لذلك لا يستحي أن يضرب المثل بأحقر مخلوقاته لِيُقنِعَ الجميع كُلاً بما يناسبه.

وقد يقول قائل: ولماذا قال {فما فوقها}، فالعجيب هنا مسألة الصِّغَر؟

نقول: المراد بما فوقها، أي: في المعنى المراد، وهو الصِّغر. أي: ما فوقها في الصِّغر لا أكبر منها.

ثم يأتي بالمعنى في صورة أخرى:
{يا أيها الناس ضُرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له..} 
[الحج: 73]

وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا..} 
[العنكبوت: 41]

إذن: يُصرِّف الله الأمثال ويُحوِّلها ليأخذ كل طَبْع ما يناسبه وما يقتنع به، وليس القرآن على وتيرة واحدة أو مزيج واحد يعطي للجميع. بل يُشخّص الداءات ويُحلِّلها ويعالجها بما يناسبها؛ لذلك يأتي الأسلوب مختلفاً.
 ***
ثم يقول تعالى: {فأبى أكثر الناس إلا كفورا}

نعرف أن (إلاّ) أداة استثناء، تُخرِج ما بعدها من حكم ما قبلها، كما تقول: جاء القوم إلا زيداً، ولو طبَّقْنَا هذه القاعدة على الآية لا يستقيم معناها، كما لو قلت: ضربت إلا زيدا، والآية أسلوب عربي فصيح.

نقول: لأن معنى أبى: "لم يقبل" و"لم يَرْضَ"، فالمراد: لم يَرْضَ إلا الكفور، فلا بُدَّ للاستثناء المفرّغ أنْ يُسبق بنفي.

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

الأربعاء، 19 مارس 2014

العلاج الأكيد للكثير من الأمراض..

لكل من يعاني من آلام الظهر والركب والضغط والقلب، وغيرها من الأمراض التي سببها حمل (هم الدنيا) والسعي لها فقط.. ننصحه بوضع هذا الحمل عن ظهره بأسرع وقت ممكن وقبل فوات الأوان، وأن يحمل (هم الآخرة) بدلا منه؛ والذي سيزيل عنه كل تلك الآلام، كما ننصحه بالسعي والهرولة بأسرع طاقة ممكنة، وبدون خوف من تجدد الأعراض، بإذن الله.

مما جاء في تفسير (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن) الإسراء، ٨٨

السلام عليكم.. طبتم وطاب مساؤكم..

يقول العزيز الحكيم:

{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا}
الإسراء، ٨٨

(قُل)، لا يقولها الحق سبحانه بينه وبين رسوله، بل المراد: أعلنها يا محمد على الملأ، وأسمِعْ بها الناس جميعاً؛ لأن القضية قضية تَحَدٍّ للجميع.

{لئن اجتمعت الإنس والجن..} وهما الثَّقَلان اللذان يكونان أمة التكليف لما منحهما الله من نعمة الاختيار الذي هو منَاطُ التكليف. وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما جميعا.
***
والتحدِّي معناه الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المعارض، لكن من جنس ما نبغ فيه المعارض، فلا يتحدّاهم بشيء لا عِلْم لهم به، ولا خبرة لهم فيه؛ لأنه لا معنى للتحدي في هذه الحالة ولا جدوى منه، كما لو تحدَّيْتَ إنساناً عادياً برفع الأثقال ولم يسبق له أن ارتاض هذه الرياضة، إنما تتحدَّى بها بطلاً معروفاً عنه ممارسة هذه العملية.
***
لذلك جاءت كل معجزات الرسل من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التحدِّي في محلِّه، ولا يعترضون عليه بأنه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم، فكانت معجزة موسى ـ عليه السلام ـ العصا واليد، وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السِّحْر، وجاءت معجزة عيسى ـ عليه السلام ـ إحياء الموتى بإذن الله، وإبراء الأكمة والأبرص؛ لأن قومه نبغوا في الطب، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في البلاغة والفصاحة التي نبغ فيها العرب.
***
والحق سبحانه أنزل القرآن، وجعله المعجزة الوحيدة لصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المعجزة الوحيدة لكل أمة الإسلام من لَدُن رسول الله إلى قيام الساعة. وهذا لا يمنع أن توجد معجزات كونية حدثتْ لرسول الله ليراها القوم الذين عاصروه، ومِثْل هذه المعجزات لا نطالب بها نحن، ولا نطالب بالإيمان بها، إلا إذا وردتْ من صادق معصوم؛ لأن الهدف من هذه المعجزات تثبيت الإيمان برسول الله في نفوس مَنْ شاهدوها، فنُبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وكَوْنُ الشجرة تسعى إليه والحيوان يُكلِّمه، فالمقصود بهذه المعجزات مَنْ شاهدها وعاصرها، لا مَنْ أتى بعد عصره صلى الله عليه وسلم.
***
وفي القرآن خاصية تفرّد بها عن الكتب السابقة، حيث نزل جامعاً بين أمرين: أنه منهج سماوي يُنظِّم حركة الحياة، وهو في الوقت نفسه معجزة مصاحبة للمنهج لا تنفكّ عنه إلى قيام الساعة.أما الكتب السابقة فكانت تأتي بمنهج فقط، أما المعجزة فشيء آخر منفصل عن الكتاب، فمعجزة موسى العصا واليد وكتابه التوراة، ومعجزة عيسى إبراء الأكمة والأبرص، وكتابه الإنجيل، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد انفرد بأن تكون معجزته هي منهجه.
**
ومنْ قال إن المعجزة في القرآن في فصاحته وبلاغته فقط؟

نقول: الغيبيات التي يخبرنا بها، والكونيات التي يُحدّثنا عنها، والتي لم تكُنْ معلومة لأحد نجدها موافقة تماماً لما جاء به القرآن، وهو مُنزِّل على نبي أُميٍّ، وفي أُمة أُميّة غير مثقفة، فهذه كلها نواحي إعجاز للعرب ولغيرهم.
***
إذن: تحدَّاهم الحق سبحانه بقوله: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن.. } وأُدخِل الجنّ في مجال التحدي؛ لأن العرب كانوا يعتقدون أن لكل شاعر نابغ، أو أديب مُفوِّه، أو عبقري عنده نبوغ بياني شيطاناً يلهمه، وهذه الشياطين تسكن وادياً عندهم يسمونه "وادي عَبْقَر"، لذلك لم يكتَف القرآن بتحديهم هم، بل تحدى أيضاً مَنْ يُلهمونهم، أو مَنْ ينسبونَ إليهم القوة في هذا الأمر.
***
ثم يقول تعالى: {على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} فالتحدِّي أنْ يأتوا (بمثله) لأنه لا يمكن أنْ يأتوا به نفسه؛ لأنه نزل من عند الله وانتهى الأمر، فمستحيل أنْ يأتُوا به نفسه مرة أخرى؛ لأنْ الواقع لا يقع مرتين.

إذن: المتصوَّر في مجال التحدي أنْ يأتوا بمثله، فلو قلت: هذا الشيء مثل هذا الشيء، فلا شَكَّ أن المشبّه به أقوى وأصدق من المشبه، ولا يرتقي المشبه ليكون هو المشبه به بل مثله، فإذا انتفى المثل فقد انتفى الأصل من باب أَوْلَى.

فالحق سبحانه في قوله: {لا يأتون بمثله..} لا ينفي عنهم أن يأتُوا بقرآن، بل بمثل القرآن، فإذا كانوا لا يأتون بالصورة، فهل يقدرون على الأصل؟!
***
ثم يقول تعالى زيادةً في التحدِّي: {ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا}.

والظهير: هو المعاون والمساعد والمعين على الأمر. فقد يقول قائل: إن هذه المهمة لا يقوم بها فرد واحد، فقال لهم سبحانه: بل هاتوا كل ما لديكم من طاقات إبداعية وعبقريات بيانية، واستعينوا بما تزعمون من إلهام الجن، وتعاونوا جميعاً في سبيل هذا التحدي، حتى إذا كان في أحدكم نقص أكمله الآخر.
***
ويجب أن نلتفت إلى مغزى آخر من وراء هذا التحدّي، فليس الهدف منه تعجيز القوم، بل أن نثبت لهم السواسية بين الخَلْق، فالجميع أمام الإله الواحد سواء، وهذه هي القضية التي تُزعجهم وتقضّ مضاجعهم.

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

الثلاثاء، 18 مارس 2014

مما جاء في تفسير: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الإسراء، ٨٥

السلام عليكم، طبتم وطيب الله صباحكم وأرواحكم..🌹

يقول عالم الغيب والشهادة:
{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} 
الإسراء، ٨٥

عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة وهو متوكئ على عسيب، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، قال: فسألوه عن الروح، فقالوا: يا محمد، ما الروح؟ فما زال متوكئاً على العسيب، قال: فظننت أنه يوحى إليه، فقال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} قال، فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه.
***
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هٰهنا على أقوال: (أحدها) أن المراد أرواح بني آدم..

"عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء، فأتاه جبريل فقال له: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}. فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فقالوا: من جاءك بهذا؟ قال: "جاءني به جبريل من عند الله"، فقالوا له: والله ما قاله لك إلاّ عدونا"، فأنزل الله: 
{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن اللّه مصدقا لما بين يديه}
[البقرة: 97].
***
[ذكر الشوكاني في فتح القدير: 
اختلف الناس في الروح المسئول عنه، فقيل: هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته، وبهذا قال أكثر المفسرين. وقيل: الروح المسئول عنه جبريل، وقيل: عيسى، وقيل القرآن، وقيل: ملك من الملائكة عظيم الخلق، وقيل: خلق كخلق بني آدم، وقيل: غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده، والظاهر القول الأول - أي روح الإنسان.]
***
وقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي}: أي من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم، ولهذا قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} أي وما أطلعكم من علمه إلاّ على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلاّ بما شاء تبارك وتعالى، والمعنى أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلاّ على القليل من علمه تعالى.

وفي قصة موسى والخضر، أن الخضر قال: يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلاّ كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، ولهذا قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}.
***
[قال القرطبي في الجامع:
أبهم الله تعالى أمر الروح وترك تفصيله، ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها. وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز.]

قال السهيلي: الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها، وقرر: أنها ذات لطيفة كالهواء سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر، وحاصل القول: أن الروح هي أصل النفس ومادتها، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن، فهي هي من وجه، لا من كل وجه، وهذا معنى حسن والله أعلم.

*التفسير من ابن كثير، رحمه الله ورحم الشوكاني والقرطبي ورحمنا

الاثنين، 17 مارس 2014

مما جاء في تفسير قوله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته) الإسراء، ٨٤

السلام عليكم. طبتم وطاب صباحكم..

يقول الهادي إلى سواء السبيل:

{قل كل يعمل على شاكلته فربكم أَعلم بمن هو أَهدىٰ سبيلًا}
 الإسراء، ٨٤

في قوله تعالى {قل كل يعمل على شاكلته} قال ابن عباس والضحاك: على ناحيته. وقال مجاهد: على طبيعته. وقال ابن زيد: أي على دينه. وقال الحسن وقتادة: على نيته. وقال مقاتل: على جبلته.

والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن. والآية والتي قبلها نزلت في الوليد بن المغيرة؛ وهي قوله تعالى: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه} .

وقوله تعالى: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}، أي بالمؤمن والكافر وما سيحصل من كل واحد منهم.
***
وحكي أن الصحابة رضوان الله عليهم تذاكروا القرآن فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تعالى {بسم الله الرحمن الرحيم • حم • تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم • غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول} [غافر : 1] قدم غفران الذنوب على قبول التوبة، وفي هذا إشارة للمؤمنين.

وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: قرأت جميع القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} [الحجر : 49].

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر : 53].

قلت: وقرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام : 82].

*من تفسير القرطبي، رحمه الله
***
[يقول الشعراوي في خواطره، عن هذه الآية العظيمة:
أي أن كل إنسان يعمل على طريقته، وعلى طبيعته، وعلى مقدار ما تكونت به من خلايا الإيمان، أو من خلايا إيمان اختلطت بخلايا عصيان، أو بما عنده من خلايا كفر، فالناس مختلفون وليسوا على طبع واحد، فلا تحاول ـ إذن ـ أن تجعل الناس على طبع واحد.

وما دام الأمر كذلك، فليعمل كل واحد على شاكلته، وحسب طبيعته، فإنْ أساء إليك إنسان سيئ الطبع فلا تقابله بسوء مثله، ولتعمل أنت على شاكلتك، ولتقابله بطبع طيّب؛ لذلك يقولون: لا تُكافئ مَنْ عصى الله فيك بأكثر من أنْ تطيع الله فيه. وبذلك يستقيم الميزان في المجتمع، ولا تتفاقم فيه أسباب الخلاف.]

الأحد، 16 مارس 2014

مما جاء في تفسير (وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً) الإسراء، 82

السلام عليكم.. طبتم وطاب صباحكم..

يقول الحق تبارك وتعالى:

(وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً)
[الإسراء، 82]

القرآن: هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته.

وهو نور ويقين، وهو الحبل المتين، وهو منهج الصالحين، فيه أخبار الأولين من الأنبياء والصالحين وكيف أن من عصى أمرهم ذاق بأس الله وكان من الأذلين، وفيه آيات تحكي معجزات الله وقدرته في هذا الكون المتين، وفيه بيان لأصل هذا الآدمي الذي كان من ماء مهين، وفيه أحكام العقيدة التي يجب أن ينطوي عليها كل قلب مستكين، وفيه أحكام الشريعة التي تبين المباح من الحرام وتبين الباطل من الحق المبين، وفيه بيان المعاد ومصير الآدمي إما إلى نار يخزى فيها فيكون من الصاغرين، وإما إلى جنة ذات جنات وعيون وزروع ومقام أمين.

وفيه شفاء للصدور، وفيه للأعمى تبصرة ونور.
***
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية:

يقول تعالى مخبراً عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد إنه (شفاء ورحمة للمؤمنين) أي: يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل، فالقرآن يشفي من ذلك كله، وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة.

وأما الكافر الظالم نفسه بذلك فلا يزيده سماعه القرآن إلا بعداً وكفراً والآفة من الكافر لا من القرآن، قال تعالى: (ولو جعلناه قرءاناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته ءاعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) [فصلت، ٤٤]. 

وقال الله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون • وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) [التوبة، 124 – 125]. 

وقال الله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [يونس، ٥٧]
والآيات في ذلك كثيرة .
***
قال قتادة - في قوله: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)، أي: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه، {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً}، أي: لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين .
***
وفيه هداية الناس من الضلال إلى الحق، قال الله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) [البقرة، ٢].

*نقلا عن موقع الإسلام سؤال وجواب، بإشراف الشيخ المنجد 
***
لكن، هل شفاءٌ القرآن شفاءٌ معنويٌّ لأمراض القلوب وعِلَل النفوس، أم هو شفاء للماديات، ولأمراض البدن أيضاً؟

والرأي الراجح ـ بل المؤكد ـ الذي لا شَكَّ فيه أن القرآن شفاء بالمعنى العام الشامل لهذه الكلمة، فهو شفاء للماديات كما هو شفاء للمعنويات، بدليل ما رُوِي عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أنه خرج على رأس سرية وقد مَرُّوا بقوم، وطلبوا منهم الطعام، فأبَوْا إطعامهم، وحدث أنْ لُدِغ كبير القوم، واحتاجوا إلى مَنْ يداويه فطلبوا مَنْ يرقيه، فقالوا: لا نرقيه إلا بجُعْلٍ، وذلك لما رأوه من بُخْلهم وعدم إكرامهم لهم.

ولما اتفقوا معهم على جُعل من الطعام والشياه قام أحدهم برقية اللديغ بسورة الفاتحة فبرئ، فأكلوا من الطعام وتركوا الشياه إلى أنْ عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه عن حِلِّ هذا الجُعْل فقال صلى الله عليه وسلم: "ومَنْ أدراك أنها رقية" أي: أنها رُقْية يرقى بها المريض فيبرأ بإذن الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "كلوا منها، واجعلوا لي سهماً معكم".

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

السبت، 15 مارس 2014

مما جاءفي تفسير (مثل الحياة الدنيا) في القرآن.. الكهف، ٤٥

السلام عليكم، طبتم وطاب صباحكم..

يقول الحي القيوم:

{واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً}
الكهف، ٤٥

يقول تعالى: {واضرب} يا محمد للناس {مثل الحياة الدنيا} في زوالها وفنائها وانقضائها، {كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض} أي ما فيها من الحب، فشب وحسن، وعلاه الزهر والنور، والنضرة، ثم بعد هذا كله {أصبح هشيما} يابساً، {تذروه الرياح} أي تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال، {وكان اللّه على كل شيء مقتدرا} أي هو قادر على هذه الحال وهذه الحال.
***
وكثيراً ما يضرب اللّه مثل الحياة الدنيا بهذا المثل، كما قال تعالى في سورة يونس: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} [الآية، ٢٤]

وقال في سورة الحديد: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [الآية، ٢١] .

وفي الحديث الصحيح: (الدنيا خضرة حلوة). 

*من تفسير ابن كثير، رحمه الله
***
والحق تبارك وتعالى في هذه الآية يوضح المجهول لنا بما عُلِم لدينا. وأهل البلاغة يقولون: في هذه الآية تشبيه تمثيل؛ لأنه سبحانه شبّه حال الدنيا في قِصَرها وسرعة زوالها بالماء الذي نزل من السماء، فارتوتْ به الأرض، وأنبتتْ ألواناً من الزروع والثمار، ولكن سرعان ما يذبلُ هذا النبات ويصير هشيماً مُتفتتاً تذهب به الريح.

وهكذا الدنيا تبدو جميلة مُزهِرة مُثمِرة حُلْوة نَضِرة، وفجأة لا تجد في يديك منها شيئاً؛ لذلك سماها القرآن دُنْيا وهو اسم يُوحي بالحقارة، وإلا فأيّ وصف أقل من هذا يمكن أن يصفها به؟ لنعرف أن ما يقابلها حياة عُلْيا.

وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: كما ضربتُ لهم مَثَل الرجلين [في سورة الكهف] وما آل إليه أمرهما.. اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلّب بأهلها، وتتبدل بهم، واضرب لهم مثلاً للدنيا من واقع الدنيا نفسها.

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا