الأربعاء، 26 فبراير 2014

تفسير قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق)، الإسراء: ٣١

السلام عليكم.. أسعد الله نهارك وكل أيامك..

يقول الرزاق ذو القوة المتين:

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا
(الإسراء، 31)

القتل: إزهاق الحياة، وكذلك الموت. ولكن بينهما فَرْق يجب ملاحظته:

فالقتل: إزهاق الحياة بنَقْض البِنْية؛ لأن الإنسان يتكوّن من بنية بناها الخالق سبحانه وتعالى، وهي أجهزة الجسم، ثم يعطيها الروح فتنشأ فيها الحياة.

أما الموت: فيبدأ بمفارقة الروح للجسد، ثم تُنقَض بنيته بعد ذلك. وتتلَفُ أعضاؤه، فالموت يتم في سلامة الأعضاء.

فحياة كل منا هي بناء أقامه الخالق تبارك وتعالى، وهو مِلْك لخالقه، لا يجوز حتى لصاحبه أن ينقضه، وإلا فلماذا حرَّم الإسلامُ الانتحار، وجعله كفراً بالله؟!

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ملعون من هدم بنيان الله". 
***
وقد أوضح القرآن الكريم هذه المسألة [الفرق بين الموت والقتل] في قوله تعالى:
{وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم} 
[آل عمران: 144]
***
وقوله تعالى: { أَوْلادَكُمْ.. }

الأولاد تُطلق على الذكَر والأنثى، ولكن المشهور في استقصاء التاريخ أنهم كانوا يَئدون البنات خاصة دون الذكور، وفي القرآن الكريم: 
{وإذا الموءودة سئلت • بأي ذنبٍ قتلت}
[التكوير: 8-9]

لأنهم في تلك العصور كانوا يعتبرون الذكور عَوْناً وعُدّةً في مُعْترك الحياة، وما يملؤها من هجمات بعضهم على بعض، كما يَروْن فيهم العِزْوة والامتداد. في حين يعتبرون البنات مصدراً للعار، خاصة في ظِلّ الفقر والعَوَزِ والحاجة، فلربما يستميل البنت ذو غِنىً إلى شيء من المكروه في عِرْضها، وبهذا الفهم يؤول المعنى إلى الرزق أيضاً.

وقوله: { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ.. } 

أي: خَوْفاً من الفقر، والإملاق: مأخوذة من مَلَق وتملّق، وكلها تعود إلى الافتقار؛ لأن الإنسان لا يتملَّق إنساناً إلا إذا كان فقيراً لما عنده محتاجاً إليه، فيتملَّقه ليأخذ منه حاجته.

***
وقوله: {نحن نرزقهم وإياكم...} 

في هذه الآية مَلْمح لطيف يجب التنّبه إليه وفَهْمه.

الحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {خشية إملاق.. } 
أي: خَوْفاً من الفقر، فالفقر ـ إذن ـ لم يَأْتِ بعد، بل هو مُحْتمل الحدوث في مستقبل الأيام، فالرزق موجود وميسور، فالذي يقتل أولاده في هذه الحالة غير مشغول برزقه، بل مشغول برزق أولاده في المستقبل؛ لذلك جاء الترتيب هكذا: {نحن نرزقهم.. } أولاً: لأن المولود يُولَد ويُولَد معه رزقه، فلا تنشغلوا بهذه المسألة؛ لأنها ليستْ من اختصاصكم.

ثم: {وإياكم.. }
أي: أن رِزْق هؤلاء الأبناء مُقدَّم على رزقكم أنتم، ويمكن أن يُفْهَم المعنى على أنه: لا تقتلوا أولادكم خَوْفاً من الفقر، فنحن نرزقكم من خلالهم، ومن أجلهم.
***
[مقارنة بين الآيتين من سورة الأنعام والإسراء]

ففي سورة الأنعام، يقول تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإياهم...} 
[الآية: 151]

إذا استقبلتم كلام الله استقبالاً سليماً فلن تجدوا فيه تعارضاً ولا تكراراً، فليست الأولى أبلغَ من الثانية، ولا الثانية أبلغَ من الأولى، بل كل آية بليغة في موضوعها؛ لأن الآيتين وإنْ تشابهتَا في النظرة العَجْلَى لكنْ بينهما فَرْق في المعنى كبير.

فآية الإسراء تقول:
{نحن نرزقهم وإياكم...}

وأما في آية الأنعام:
{نحن نرزقكم وإياهم...} 
[الآية: 151]

فلا بُدَّ أن نلاحظَ أن للآية صدراً وعَجُزاً، ولا يصح أن يفهم أحدهما دون الآخر، بل لا بُدَّ أن تجمع في فَهْم الآية بين صدرها وعجزها، وسوف يستقيم لك المعنى ويُخرجك من أي إشكال.

فصَدْري الآيتين مختلفان:

الأولى: {خشية إملاق...} [الإسراء: 31]

والأخرى:
{من إملاق...} 
[الأنعام: 151]

والفرْق واضح بين التعبيرين: فالأول: الفقر غير موجود؛ لأن الخشية من الشيء دليل أنه لم يحدث، ولكنه مُتوقَّع في المستقبل، وصاحبه ليس مشغولاً برزقه هو، بل برزق مَنْ يأتي من أولاده.

أما التعبير الثاني:
{من إملاق...} 
[الأنعام: 151]

هنا الفقر موجود وحاصل فعلاً، والإنسان هنا مشغول برزقه هو لا برزق المستقبل، فناسب هنا أنْ يُقدِّم الآباء في الرزق على الأبناء.
***
وقوله تعالى: {إن قتلهم كان خِطئا كبيرا} 

خِطْئاً مثل خطأ، وهو الإثم والذنب العظيم. وتأتي بالكسر وبالفتح كما نقول: خُذوا حِذْركم، وخذوا حَذرَكم.

[يقول ابن كثير في تفسيره: هذه الآية الكريمة دالة على أن اللّه تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده، لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته، فنهى اللّه تعالى عن ذلك.]

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

ليست هناك تعليقات: