الثلاثاء، 25 فبراير 2014

تفسير قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين...) الإسراء، ٢٦

السلام عليكم.. وطيب الله صباحكم..🌹

يقول الحق تعالى:

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا
 (الإسراء، ٢٦)

بعد أن حننَّ الحق سبحانه الإنسانَ على والديْه في قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا).. صعَّد المسألة، فحنَّنه على قرابة أبيه وقرابة أمه، فقال: {وآت ذا القربى حقه...}.

{حَقَّهُ}.. لأن الله تعالى جعله حَقّاً للأقارب إنْ كانوا في حاجة، وإلا فلو كانو غير محتاجين، فالعطاء بينهم هدية متبادلة، فكل قريب يُهادي أقرباءه ويهادونه. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُشيعَ في المجتمع روح التكافل الاجتماعي.
***
لذلك كان بعض فقهاء الأندلس إذا منع الرجل زكاةً تقرُب من النِّصاب أمر بقطع يده، كأنه سرقه؛ لأن الله تعالى أسماه (حقاً) فَمْن منع صاحب الحق من حقه، فكأنه سرقه منه.

وقد سلك فقهاء الأندلس هذا المسلك، لأنهم في بلاد ترف وغنى، فتشدّدوا في هذه المسألة؛ لأنه لا عُذْر لأحد فيها.

لذلك، لما جاء أحد خلفائهم إلى المنذر بن سعيد، وقال: لقد حُلفت يميناً، وأرى أن أُكفِّر عنه فأفتاه بأن يصوم ثلاثة أيام، فقال أحدهم: لقد ضيّقتَ واسعاً، فقد شرع الله للكفارة أيضاً إطعامَ عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فرد عليه المنذر قائلاً: أو مثلُ أمير المؤمنين يُزْجَر بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم؟ إنه يفعل ذلك في اليوم لألْف وأكثر، وإنما يزجره الصوم، وهكذا أخذوا الحكم بالروح لا بالنص؛ ليتناسب مع مقدرة الخليفة، ويُؤثِّر في رَدْعه وزَجْره.
***
وكلمة (حق) وردت في القرآن على معنيين:

الأول: في قوله تعالى:
{والذين في أموالهم حقٌ معلوم} 
[المعارج: 24]

والحق المعلوم هو الزكاة.

أما الحق الآخر فحقٌّ غير معلوم وغير موصوف، وهو التطوع والإحسان، حيث تتطوَّع لله بجنس ما فرضه عليك، كما قال تعالى:
{إنهم كانوا قبل ذلك محسنين • كانوا قليلا من الليل ما يهجعون • وبالأسحار هم يستغفرون • وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم}
[الذاريات: 16-19]

ولم يقل: " معلوم ": لأنه إحسان وزيادة عَمَّا فرضه الله علينا.
***
ويجب على من يُؤْتِى هذا الحق أن يكون سعيداً به، وأن يعتبره مَغْنماً لا مَغْرماً؛ لأن الدنيا كما نعلم أغيار تتحول وتتقلب بأهلها، فالصحيح قد يصير سقيماً، والغني قد يصير فقيراً وهكذا، فإعطاؤك اليوم ضمانٌ لك في المستقبل، وضمان لأولادك من بعدك، والحق الذي تعطيه اليوم هو نفسه الذي قد تحتاجه غداً، إنْ دارتْ على العبد الدائرة.
***
ولذلك، فالناس أصحاب الارتقاء والإثراء لورعهم لا يعطون الأقارب من أموال الزكاة، بل يخصُّون بها الفقراء الأباعد عنهم، ويُعْطون الأقارب من مالهم الخاص مساعدة وإحساناً. 
***
و{ٱلْمِسْكِينَ}: هو الذي يملك وله مال، لكن لا يكفيه، بدليل قوله الحق سبحانه:
{أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ...} 
[الكهف: 79]

أما الفقير: فهو الذي لا يملك شيئاً، وقد يعكس البعض في تعريف المسكين والفقير، وهذا فهم خاطئ.

و{وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ...}
السبيل هو الطريق، والإنسان عادةً يُنْسَب إلى بلده، فنقول: ابن القاهرة، ابن بورسعيد، فإنْ كان منقطعاً في الطريق وطرأتْ عليه من الظروف ما أحوجه للعون والمساعدة، وإن كان في الحقيقة صاحب يسارٍ وَغِنىً، كأن يُضيع ماله فله حَقٌّ في مال المسلمين بقدر ما يُوصّله إلى بلده.

وابن السبيل إذا طلب المساعدة لا تسأله عن حقيقة حاله، لأن له حقاً واجباً فلا تجعله في وضع مذلّة أو حرج.
*** 
{ولا تبذر تبذيرا}
كما قال تعالى في آية أخرى:
{وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} 
[الأنعام: 141]

فالتبذير هو الإسراف، مأخوذ من البذر، وهو عملية يقوم بها الفلاح فيأخذ البذور التي يريد زراعتها، وينثرها بيده في أرضه، فإذا كان متقناً لهذه العملية تجده يبذر البذور بنسب متساوية...
***
لذلك، فالحق سبحانه آثر التعبير عن الإسراف بلفظ (التبذير)؛ لأنه يضيع المال في غير موضعه المناسب، وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام، فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم، في حين يمسك في الشيء الضروري.

إذن: التبذير: صَرْف المال في غير حِلِّه، أو في غير حاجة، أو ضرورة.

وقد يكون المعنى: أعْطِ ذا القربى والمساكين وابن السبيل، ولكن لا تُبذِّر في الأمور الأخرى، فالنهي هنا لا يعود إلى الإيتاء، بل إلى الأمور التافهة التي يُنفَق فيها المال في غير ضرورة.
***
[فائدة ذكرها ابن كثير: يقول ابن مسعود، التبذير هو الإنفاق في غير حق.. وقال مجاهد، لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً، ولو أنفق مداً في غير حق كان مبذراً. وقال قتادة: التبذير هو النفقة في معصية الله تعالى، وفي غير الحق والفساد.]

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

ليست هناك تعليقات: