الأحد، 23 فبراير 2014

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة... الآيات) الإسراء: ١٨-٢١

السلام عليكم.. أسعد الله صباحك وجعلك من أهل عليين والديك ومن تحب..

يقول الحق تبارك وتعالى:

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا • وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا • كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا • انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا
 (الإسراء: ١٨-٢١)

يقول الحق تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ} هذا تأكيد لما سلف من جملة {كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه}، ومن جملة {من اهتدى}، والمراد بالعاجلة: المنفعة العاجلة، أو الدار العاجلة. والمعنى: من كان يريد بأعمال البرّ أو بأعمال الآخرة ذلك، فيدخل تحته الكفرة والفسقة والمراءون والمنافقون {عَجَّلْنَا لَهُ} أي: عجلنا لذلك المريد {فِيهَا}: أي: في تلك العاجلة.
***
 ثم قيد المعجل بقيدين:
الأوّل: قوله: {مَا نَشَاء} أي: ما يشاء الله سبحانه تعجيله له منها، لا ما يشاؤه ذلك المريد، ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون، ويتمنون ما لا يصلون إليه.

والثاني قوله: {لِمَن نُّرِيدُ} أي: لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا،... وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة كقوله سبحانه: 
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا }
[الشورى: 20].
***
ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلاّ بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم، ولهذا قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} أي: جعلنا له بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب عذاب جهنم على اختلاف أنواعه {يَصْلَـٰهَا} أي: يدخلها {مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} أي: مطروداً من رحمة الله مبعداً عنها، فهذه عقوبته في الآخرة، مع أنه لا ينال من الدنيا إلاّ ما قدره الله سبحانه له، فأين حال هذا الشقيّ من حال المؤمن التقيّ؟ 
***
فإنه [أي المؤمن] ينال من الدنيا ما قدّره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع، مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه، وهو الجنة، ولهذا قال: {وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ} أي: أراد بأعماله الدار الآخرة {وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا} أي: السعي الحقيق بها اللائق بطالبها، وهو الإتيان بما أمر به، وترك ما نهى عنه خالصاً لله غير مشوب، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله إيماناً صحيحاً، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلاّ إذا كان من المؤمنين:

{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ }
[المائدة: 27]
***
والإشارة بقوله: {فَأُوْلَـئِكَ} إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها وخبره {كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} عند الله تعالى، أي: مقبولاً غير مردود، وقيل: مضاعفاً إلى أضعاف كثيرة، فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكوراً أموراً ثلاثة:
 الأول: إرادة الآخرة،
الثاني: أن يسعى لها السعي الذي يحق لها، والثالث: أن يكون مؤمناً.
***
ثم بين سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ} أي كل واحد من الفريقين نمدّ، أي: نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع، نرزق المؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، وما به الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا، وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة، وفي قوله: {مِنْ عَطَاء رَبّكَ} إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل وهو متعلق بـ {نمد} ، {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا} أي: ممنوعا.
***
قال الزجاج: أعلم أن الله سبحانه يعطي المسلم والكافر وأنه يرزق الفريقين جميعا، فقال: {هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ}. {ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار، وهذه الجملة مقرّرة لما مرّ من الإمداد وموضحة له، والمعنى: انظر كيف فضلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض، فمن غني وفقير، وقوي وضعيف، وصحيح ومريض، وعاقل وأحمق، وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها. {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـٰتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، وليس للدنيا بالنسبة إلى الآخرة مقدار، فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً. 

[ومن التفاضل في منازل أهل الجنة] ما ورد في الصحيحين:
"إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء."

*من تفسير فتح القدير للشوكاني، رحمه الله ورحمنا

ليست هناك تعليقات: