الأحد، 2 مارس 2014

تفسير قوله تعالى: (ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم)، الإسراء: ٣٦

السلام عليكم.. طيب الله صباحكم..🌹

يقول الحق تبارك وتعالى:

{ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}
الإسراء، ٣٦

{لاَ تَقْف} أي: لا تتبع ولا تتدخل فيما لا عِلْم لك به، كمَنْ يدَّعي مثلاً العلم بإصلاح التليفزيون وهو لا يعلم، فربما أفسد أكثر مما يُصلح.

ومن هنا قال أهل الفقه: مَنْ قال لا أدري فقد أفتى؛ لأنه بإعلان عدم معرفته صرف السائل إلى مَنْ يعلم، أما لو أجاب خطأ، فسوف يترتّب على إجابته مَا لا تُحمد عُقْباه.
***
والعلم هنا يُراد به العلم المطلق؛ العلم الديني و كل ما يُثري حركة الحياة. 
***
 إن الذي اكتشف العجلة والكهرباء والجاذبية وغيرها لم يخلق جديداً في كَوْن الله، إنما أحسن النظر والتأمّل فتوصّل إلى ما يُريح المجتمع ويُسعده.

لذلك، فالحق سبحانه وتعالى يُحذّرنا أن نمرَّ على ظواهر الكون في إعراض وغفلة ودون تمعُّن فيها:
{وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون}
[يوسف: 105]
***
والذين عبَّروا عن هذه الإنجازات العلمية بكلمة (الاكتشافات) كانوا أمناء في التعبير عن الواقع الفعلي، فهم لم يخلقوا جديداً في الكون، فكلُّ هذه الأشياء موجودة، ... ومن هنا فكلمة (اختراع) ليست دقيقةً في التعبير عن هذه الاكتشافات.
***
فإذا كان الحق سبحانه نهانا عن تتبُّع ما ليس لنا به علم، فماذا نتبع؟ نتبع ما نعلمه وما نتيقن منه من علوم، فإنْ كانت في الدين تركناها للخالق سبحانه يُقنّنها لنا، وإنْ كانت في أمور الدنيا أعملنا فيها عقولنا بما ينفعنا ويُثرِي حياتنا؛ لذلك تكلّم الحق سبحانه بعد ذلك عن وسائل إدراك العلم، فقال: {إن السمع والبصر والفؤاد كلُ أولئك كان عنه مسؤولا)
***
ولولا وسائل الإدراك هذه ما عَلم الإنسانُ شيئاً، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى:
{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}
[النحل: 78]
***
وإنْ كانت حواس الإنسان كثيرة فإن أهمها: السمع والبصر، وقد وردت في القرآن بهذا الترتيب، السمع أولاً، ثم البصر لأن السمع يسبق البصر، فالإنسان بمجرد أنْ يُولَد تعمل عنده حاسّة السمع، أما البصر فإنه يتخلّف عن السمع لعدة أيام من الولادة، إذن: فهو أسبق في أداء مهمته، هذه واحدة.

الأخرى: أن السمع هو الحاسَّة الوحيدة التي تُؤدّي مهمتها حتى حال النوم، وفي هذا حكمة بالغة للخالق سبحانه، فبالسمع يتم الاستدعاء من النوم.وقد أعطانا الخالق سبحانه صورة واضحة لهذه المسألة في قصة أهل الكهف، فلما أراد سبحانه أن يناموا هذه السنين الطوال ضرب على آذانهم وعطّل حاسة السمع لديهم، وإلاّ لَمَا تمكَّنوا من النوم الطويل، ولأزعجتهم الأصوات من خارج الكهف. فقال تعالى:
{فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا}
[الكهف: 11]
***
ولم يسبق البصر السمع إلا في آية واحدة في كتاب الله تعالى وهي:
{رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا..} 
[السجدة: 12]

والحديث هنا ليس عن الدنيا، بل عن الآخرة، حيث يفزع الناس من هَوْلها فيقولون..
{ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا..} [السجدة: 12].. لأنهم في الآخرة أبصروا قبل أن يسمعوا.
***
والذي يتتبع الآيات التي ورد فيها السمع والبصر سيجدها جاءت بإفراد السمع وجمع البصر، مثل قوله سبحانه:
{وجعل لكم السمع والأبصار..
[السجدة: 9]

إلا في هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها جاءت: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء: 36]

لماذا؟ وما الحكمة من إفرادها هنا بالذات؟

قبل أن نُوضِّح الحكمة هنا يجب أن نعي أن المتكلم هو الله تعالى، وما دام المتكلم هو الله فلا بُدَّ أن تجد كل كلمة دقيقة في موضعها، بليغة في سياقها.

فالسمع جاء بصيغة الإفراد؛ لأنه لا يتعدد فيه المسموع بالنسبة للسامع، فإذا حدث الآن صوت نسمعه جميعاً، فهو واحد في جميع الآذان.

أما البصر فهو خلاف ذلك؛ لأن أمامنا الآن مرائيَ متعددة ومناظر مختلفة، فأنت ترى شيئاً، وأنا أرى شيئاً آخر، فَوحْدة السمع لا تنطبق على البصر؛ لذلك أفرد السمع وجاء البصر بصيغة الجمع.

أما في قوله تعالى: {إن السمع والبصر..} [الإسراء: 36] فقد ورد البصر هنا مفرداً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المسئولية، مسئولية كل إنسان عن سَمْعه وبصره، والمسئولية أمام الحق سبحانه وتعالى فردية لا يُسأل أحد عن أحد، بل يُسأل عن نفسه فحَسْب، فناسب ذلك أنْ يقول: السمع والبصر؛ لأنه سيُسأل عن بصر واحد وهو بصره.
***
[يقول محمد الطاهر ابن عاشور: في هذه الآية أدب خلقي عظيم، وهو أيضا إصلاح عقلي جليل يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط عندها المعلوم والمظنون والموهوم.]

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

ليست هناك تعليقات: