الخميس، 20 مارس 2014

مما جاء في تفسير (ولقد صرّفنا للناسِ في هذا القُرآنِ من كل مثل فأبى أكثرُ الناسِ إلا كفوراً) الإسراء، ٨٩

السلام عليكم.. طبتم وطاب صباحكم..

يقول الواحد الأحد:
 
{ولقد صرّفنا للناسِ في هذا القُرآنِ من كل مثل فأبى أكثرُ الناسِ إلا كفوراً}
(الإسراء، ٨٩)

التصريف: هو التحويل والتنويع بأساليب مختلفة لزيادة البيان، والمراد أن القرآن الكريم لا يعالج القضايا بأسلوب رتيب جامد، بل يُحوِّل الكلام بين أساليب متعددة؛ لأنه يخاطب طباعاً متعددة، ويتعرض أيضاً لموضوعات متعددة ومعاني مختلفة، فلا بُدَّ أن يصرف الأسلوب ويَقلِبه على أكثر من وجه، فالذي لا يفهم هذه يفهم هذه، فيعرض المعنى الواحد بأساليب متعددة وأمثال مختلفة.

ونأخذ مثالاً على ذلك قضية القمة، وهي الألوهية ووحدانية الله تعالى، فنرى القرآن يعرضها في معارض مختلفة هكذا:
{لو كان فيهما آلِهَةٌ إلا اللهُ لفسدتا..} 
[الأنبياء: 22]

أي: في السماء والأرض.

وهذا الأسلوب قد لا يفهمه غير العربي؛ لأنه يفتقد الملَكَة اللغوية التي يتلقّى بها كلام الله، وقد يعترض فيقول: (إلا) أداة استثناء. فالمعنى: لو كان فيهما آلهة خارج منهم الله لَفَسدتَا، فلو كانت هناك آلهة ومعهم الله فهذه لا تجوز؛ لأنها مشاركة، لكنها تفيد أن الله تعالى موجود، وإنْ كان معه آخرون، والمنطق في هذه الحالة يقول: لو كان في السماء والأرض آلهة ومعهم الله لا تفسد.

لكن الحقيقة أن {إِلاَّ} هنا ليس للاستثناء، بل هي اسم بمعنى (غير). فالمعنى إذن: لو كان فيهما آلهة غير الله لَفسدَتا.

ثم يعرضها بأسلوب آخر، فيقول تعالى:
{ما اتخذ اللُه من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كلُ إلهٍ بما خلقَ ولعلا بعضُهم على بعض..} 
[المؤمنون: 91]

فالحق تبارك وتعالى مُنزّه عن الولد والشريك، إذ لو كان معه إله آخر لَذهبَ كل إله بما خلق، واختصّ نفسه بمنطقة معينة، ولعلا بعضُهم على بعض، فإن أرادوا إبراز شيء للوجود، فأيّهما يبرزه؟ إنْ قدر على إبراز واحد فالآخر عاجز، وإنْ لم يقدر عليه واحد بمفرده، فهما عاجزان لا يصلحان للألوهية.

ثم يعرض نفس القضية بأسلوب آخر، فيقول:
{قل لو كان معه آلِهَةٌ كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا}
[الإسراء: 42]

أي: إنْ كان مع الله آلهة كما يدَّعي المشركون لَذهَب هؤلاء الآلهة إلى ذي العرش يُعاتبونه أو يُؤدِّبونه، أو يُعاقبونه؛ لأنه انفرد بالملْك من دونهم [تعالى الله عما يظنون].

وبأسلوب آخر يقول تعالى:
{شهد اللهُ أنهُ لا إله إلا هو..}
[آل عمران: 18]

ولم يَأْتِ مَنْ ينازعه هذه المكانة، أو يدَّعيها لنفسه، إذن: فقد ثبتتْ له هذه القضية إلى أنْ يُوجَد معارض، فالمختلف فيه يتفق عليه إنْ لم يظهر له معارض.

وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً، ولله المثل الأعلى: هَبْ أن جماعة انصرفوا من مجلس، ثم وجد صاحب البيت محفظة نقود في مكان مجلسهم فعرضها عليهم، فلم يدَّعها أحد لنفسه إلا رجل واحد قال: هي لي، أيشكُّ صاحب البيت أنها له؟
***
وهكذا يُصرِّف القرآن أسلوبه، ويُحوّله ليقنع به جميع العقول؛ ليناسب كل الطبائع. وتمتاز لغة العرب بالمثل والحكمة؛ لذلك كان من التصريف في أسلوب القرآن استخدام المثل، وهو تعبير مُوجَز، يحمل المعاني الكثيرة وتتعشق لفظه، وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته.

إذن: لأهمية المثل في لغة العرب جعله القرآن لَوْناً أسلوبياً، وأداةٍ للإقناعٍ، كما في قوله تعالى:
{إن ٱللَّهَ لا يَسْتَحْى أَن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. } 
[البقرة: 26]

لأن الله تعالى يخاطب بالقرآن عقولاً مختلفة وطبائع متعددة؛ لذلك لا يستحي أن يضرب المثل بأحقر مخلوقاته لِيُقنِعَ الجميع كُلاً بما يناسبه.

وقد يقول قائل: ولماذا قال {فما فوقها}، فالعجيب هنا مسألة الصِّغَر؟

نقول: المراد بما فوقها، أي: في المعنى المراد، وهو الصِّغر. أي: ما فوقها في الصِّغر لا أكبر منها.

ثم يأتي بالمعنى في صورة أخرى:
{يا أيها الناس ضُرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له..} 
[الحج: 73]

وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا..} 
[العنكبوت: 41]

إذن: يُصرِّف الله الأمثال ويُحوِّلها ليأخذ كل طَبْع ما يناسبه وما يقتنع به، وليس القرآن على وتيرة واحدة أو مزيج واحد يعطي للجميع. بل يُشخّص الداءات ويُحلِّلها ويعالجها بما يناسبها؛ لذلك يأتي الأسلوب مختلفاً.
 ***
ثم يقول تعالى: {فأبى أكثر الناس إلا كفورا}

نعرف أن (إلاّ) أداة استثناء، تُخرِج ما بعدها من حكم ما قبلها، كما تقول: جاء القوم إلا زيداً، ولو طبَّقْنَا هذه القاعدة على الآية لا يستقيم معناها، كما لو قلت: ضربت إلا زيدا، والآية أسلوب عربي فصيح.

نقول: لأن معنى أبى: "لم يقبل" و"لم يَرْضَ"، فالمراد: لم يَرْضَ إلا الكفور، فلا بُدَّ للاستثناء المفرّغ أنْ يُسبق بنفي.

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

ليست هناك تعليقات: