السبت، 1 مارس 2014

مما جاء في تفسير (وأوفوا الكيل إذا كلتم).. الإسراء، ٣٥

السلام عليكم ورحمة الله.. طيب الله صباحكم وعيشكم..

يقول عز من قائل:

{وأوفُوا الكيل إذا كلتم وزِنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلا}
(الإسراء، ٣٥)

الحديث هنا لا يخصُّ الكيْل فقط، بل جميع المقادير المستخدمة في حركة الحياة مثل المقادير الطولية مثلاً، والتي تُقدّر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتُقاسُ بها الأشياء كُلٌّ على حَسْبه، فالكتاب مثلاً يُقَاس بالسنتيمتر، والحجرة تُقَاس بالمتر، أما الطريق فيُقاس بالكيلومتر وهكذا.
***
ومعنى ذلك أن ميزان التقدير يجب أن يكون سليماً؛ لذلك يقول تعالى: {وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ..} يعني: أعطوا المقادير على قدر المطلوب من الطرفين دون نقص.

وقد قال تعالى في آية أخرى:
{ويل للمطففين • الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون • وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسِرون}

 واللوم على:
{وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسِرون} 
[المطففين: 3]

أي: إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم {يُخْسِرُونَ} أي: ينقصون. هذا هو موضع الذمِّ ومجال اللوْم في الآية؛ لأن الإنسان لا يُلام على أنه استوفى حَقَّه، بل يُلام على أنه لم يُسَوِّ بينه وبين الآخرين، ولم يعامل الناس بمثل ما يحب أنْ يُعاملوه به.

ونلاحظ أن الكثيرين يفهمون أن التطفيف يكون في الكَيْل والميزان فحسب، لكنه أيضاً في السعر.

ثم يقول تعالى: {وزنوا بالقسطاس المستقيم..} أي: اجعلوا الوزن دقيقاً مستقيماً لا جَوْرَ فيه.

[ذكر الشوكاني في تفسيره: . قال الزجاج أن القسطاس هو ميزان العدل أيّ: ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها، وقيل هو القبّان المسمى بالقرسطون؛ وقيل هو العدل نفسه، وهي لغة الروم، وقيل: لغة سريانية.] 

والمتأمل يجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما أراد دقة الأحجام في تعاملات الناس أمرهم بإيفاء الكيل حَقَّه، هكذا: { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ.. } 
***
أما في الوزن فقد ركز على دِقَّته، وجَعَله بالقسطاس، ليس القسطاس فحسب بل المستقيم، إذن: لماذا هذه الدِّقة في الميزان بالذات؟

لو نظرتَ إلى عملية الكيْل لوجدتها واضحة مكشوفة، قَلَّما يستطيع الإنسان الغِشَّ فيها؛ لأن الكيْل أمام الأعين والتلاعب فيه مكشوف. أما الوزن فغير ذلك، الوزن مجال واسع للتلاعب، ولدى التجار ألف طريقة وطريقة يبخسون بها الوزن دون أن يدري بهم أحد؛ لأن الميزان كما نعلم رافعة من النوع الأول، عبارة عن محور ارتكاز في الوسط، وكِفَّة القوة في ناحية، وكِفَّة المقاومة في الناحية الأخرى، فأيُّ نَقْص في الذراعين يفسد الميزان، وأيُّ تلاعب في كِفة القوة أو المقاومة يفسد الميزان.
***
وسبق أن أوضحنا أن ميزان كُلِّ شيء بحسبه، ويتناسب مع قيمته ونفاسته، فالذي يزن الجير مثلاً غير الذي يزن اللوز، غير الذي يزن الذهب أو الألماس؛ لذلك من معاني (القسطاس المستقيم) أن يتناسب الميزان مع قيمة الموزون، فالذي يبيع الذهب مثلاً يزن أشياء ثمينة مهما كانت قليلة في الميزان؛ فإنها تساوي الكثير من المال.
***
وعلى العبد أن لا ينسى أن فوقه قيُّوماً، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تخفي عليه من أمرك خافية، وسوف يُسلِّط عليك مَنْ يسقيك بنفس كأسك إلى أنْ تتبينَ لك حقيقة هذه الصفقة الخاسرة؛ لأنك إن عَمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّي على قضاء السماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر". 
***
ثم يقول تعالى: {ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}

{ذٰلِكَ} أي: الوزن بالقسطاس المستقيم خير وأحسن {تَأْوِيلاً} أي: عاقبة، ومعنى ذلك أن المقابل له ليس خيراً ولا أحسن عاقبة.
***
أما التاجر الصادق الذي يُوفِي الكَيْل والميزان، فإن الله تعالى ييسر له من يوفي له الكيل والميزان، وكذلك يشتهر بين الناس بصدقه وأمانته، فيقبلون عليه ويحرصون على التعامل معه. وهذا هو المراد بقوله تعالى: {ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي: احسن عاقبة..
***
[وفي الدرر السنية: من الغش أن يحصل الشخص على المال بطرق محرمة، إمَّا عن طريق الكذب، أو كتمان عيب السلعة، أو البخس في ثمنها، أو التطفيف في وزنها، أو خلط الجيِّد بالرديء، وغيرها من الطرق المحرمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني".
***
قال ابن حجر الهيتمي مبينًا هذا النوع من الغش في البيع والشراء: (الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع، أو مشتر فيها شيئًا، لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل).
***
وقال ابن تيمية: (والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب، وتدليس السلع، مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه، كالذي مرَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر عليه.]

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

ليست هناك تعليقات: