الثلاثاء، 11 مارس 2014

مما جاء في تفسير (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) الإسراء، ٧٣-٧٥

السلام عليكم.. طبتم وطاب يومكم..

يقول الرؤوف الرحيم:

{وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً • ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا • إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا}
الإسراء: ٧٣-٧٥

هذه خبيثة جديدة من خبائث [المشركين] مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يحاولون جادِّين أنْ يصرفوا رسول الله عما بعثه الله به، فمرة يقولون له: دَعْ آلهتنا نتمتع بها سنة ونأخذ الغنائم من ورائها وتحرم لنا بلدنا ـ أي: ثقيف ـ كما حرمت مكة. ومرة يقولون له: لا تستلم الحجر ويمنعونه من استلامه حتى يستلم آلهتهم أولاً.

فالمعنى: لو أنك تنازلتَ عن المنهج الذي جاءك من الله لَصِرْتَ خليلاً لهم، كما كنت خليلاً لهم من قبل، وكانوا يحبونك ويقولون عنك "الصادق الأمين".

إذن: الذي جعلهم في حالة عداء لك هو منهج الله الذي جئتَ به، فلو تنازلتَ عنه أو تهاونت فيه فسوف يتخذونك خليلاً، فلا تكُنْ خليلاً لهم بل خليلاً لربك الذي أرسلك.
***
ثم يقول تعالى:
{ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا}

المتأمل في هذه الآية يجدها تحتاط لرسول الله عدة احتياطات، فلم تقُلْ: لولا تثبتنا لك لَركنتَ إليهم، لا، بل لَقاربتَ أنْ تركنَ فمنعتْ مجرد المقاربة، أما الركون فهو أمر بعيد وممنوع نهائياً وغير مُتصوّر من رسول الله، ومع ذلك أكّد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله: {شيئا قليلا} أي: ركوناً قليلاً.

مما يدلُّ على أن طبيعته صلى الله عليه وسلم ـ حتى دون الوحي من الله ـ طبيعة سليمة بفطرتها، فلو تصوَّرنا عدم التثبيت له من الله ماذا كان يحدث منه؟ يحدث مجرد (كاد) أو (قَرُب) أنْ يركنَ إليهم شيئاً قليلاً، وقلنا: إن المقارنة تعني مشروعَ فِعْل، لكنه لم يحدث، مِمّا يدلُّ على أن لرسول الله ذاتية مستقلة.

والحق سبحانه في هذه الآيات يريد أنْ يستلَّ السخيمةَ على محمد صلى الله عليه وسلم من قلوب أعدائه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هدايتهم وتأليف قلوبهم، وقد كان يشقُّ على نفسه ويُحمّلها ما لا يطيق في سبيل هذه الغاية، ومن ذلك ما حدث من تَرْكه عبد الله بن أم مكتوم الذي جاءه سائلاً، وانصرافه عنه إلى صناديد قريش؛ لذلك عتب عليه ربه تبارك وتعالى لأنه شقَّ على نفسه.

وكأن الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يقول: يا قوم إنْ لم يوافقكم محمد [صلى الله عليه وسلم] على ما كنتم تريدون منه الانصراف عَمَّا أُنزِل إليه من ربه، فاعذروه؛ لأن الأمر عندي والتثبيت مني، ولا ذنب لمحمد فيما خالفكم فيه، كما لو كان عندك خادم مثلاً ارتكب خطأ ما، فأردت أنْ تتحمل عنه المسئولية، فقلت: أنا الذي كلفتُه بهذا وأمرتُه به، فالأمر عندي وليس للخادم ذنب فيما فعل.
***
ثم يقول الحق سبحانه: {إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات..}.

{إِذاً} أي: لو كِدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً لأذقناك ضِعْف الحياة وضِعْف الممات، وبهذا التهديد يرفع الحق سبحانه سخيمة الكُرْه من صدور القوم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وينقلها له سبحانه وتعالى.

ومعنى {ضعف الحياة وضعف الممات.. } الضعف: مضاعفة الشيء مرة أخرى. أي: قَدْر الشيء مرتين. فالمراد: لأذقناك ضِعْف عذاب الحياة وضِعْف عذاب الممات.

لكن لماذا يُضَاعَف العذاب في حَقِّ محمد صلى الله عليه وسلم؟

قالوا: لأنه أُسْوة كبيرة وقُدْوة يقتدي الناس بها، ويستحيل في حقِّه هذا الفعل، ولا يتصور منه صلى الله عليه وسلم، لكن على اعتبار أن ذلك حدث منه فسوف يُضاعَف له العذاب، كما قال تعالى في نساء النبي [عليه الصلاة والسلام]:
{يٰنساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا}
[الأحزاب: 30]

ذلك لأنهن بيت النبوة وأمهات المؤمنين، وهنَّ أُسْوة لغيرهنّ من نساء المسلمين، وكلما ارتفع مقام الإنسان في مركز الدعوة إلى الله وجب عليه أنْ يتبرأ عن الشبهة؛ لأنه سيكون أُسْوة فعل، فإنْ ضَلَّ فلن يضل في ذاته فقط، بل سيضل معه غيره، ومن هنا شدَّد الله العقوبة وضاعفها للنبي صلى الله عليه وسلم ولزوجاته أمهات المؤمنين.

ثم يقول تعالى: {ثم لا تجد لك علينا نصيرا}

أي: لا تجد [يا أيها النبي] مدافعاً يدافع عنك؛ أو ناصراً ينصرك؛ لأن مددَك مني وحدي، فكيف يكون لك ناصر من دوني؟

*من خواطر الشعراوي، رحمه الله ورحمنا

ليست هناك تعليقات: